الاثنين، نوفمبر 07، 2016

«شَجِنٌ عليها»


«شجِنَهْ عليك» اعتادت أمي قول الجملة لي في صغري بعد كل غيبة يتلوها لقاء، ولأنها أمي، فقد وثقت بحدسها الفائض بداوة في استخدام الشجن بتلك الصيغة وكان لها وقع آسر حين تذكرتُ مع بداية شغفي باللغة.
لا حدود واضحة بين ما رشَح في اللغة من حالات النفس: كالشجن، والشوق، والحنين.. إلخ، جميعها، ما إن تبيّن حتى تنسى، فهي متشعبة تأخذ من الحزن لتكتمل، كما تأخذ من الحب وحالاته من اللوعة، واللهفة، والحزن، والأمل ومشاعره المُختلطة والمتقلبَة.
في اشتقاق أمي الذي تقوله بلهجة حانية، الشجن يعني: تمثُّل المحب لحالات حبيبه البعيد والانشغال بحاله، كيف يعيش ؟ حزين أم سعيد ؟ معتل أم صحيح ؟.. وكثيرا ما عاجلتني أمي باتصالٍ لتسألني عن حالي وأنا في مدينة بعيدة عنها، جازمة بأن شيئا حدث لي كما يقول قلبها.
إنه تشابك الأرواح في مصائرها بين عاشقين، وحبيبين، وعزيزين، مع وجود مساحة «زمكانية» تمنع التلاقي، كأن يكون كل منهما في بلدين مختلفين، أو الانشغال بالذكرى انشغالا باعث للحزن والشوق والحنين والتوجع.
في معجم المعاني ترد «شجَنٌ» بمعنى : شجِنَتْ الحمامة شجُونا: ردَّدت صوتها، وعدَّت العرب نواحا. والأمر فلانا شجْنَا: أهمَّه وشغَله. وأحزنه. وشجِنَ شجنا: حزِنَ فهو شجِنْ. أشجَنَ الكرْم ونحوه: تشابكت فروعه والأمر فلانا: أحزنه.
من الانشغال يتولَّد الحزن، بدرجة فاتحة لو اعتبرناه لونا، وحدُّه الأدنى الرغبة في معرفة حال ما أشجننا، وما تجاوز ذلك أحال إلى شعور مُختلف.
درجة الحزن الغامقة في الشجن تكون حنينا، «الحنين» كشعور عميق بالحاجة إلى لقاء ما نحن إليه من المألوف سواء وجد أو فَني. وتكون شوقا «الشوق» كشعور بالتعلق والتلهف لرؤية ما نريد مع وجود إمكانية وإن كانت مجرد اعتقاد بداخلنا لا يُصدقه الواقع.
أعود إلى أمِّي، فقد كبُرتُ أنا، ولم أضع حقائبي وزادت مرات ارتيادي لطرقات السفر، وأصبحت أمي في كل غيبة تخاطبني قائلة: نُريد رؤيتك تعال عندنا، فلم عُدت ذاك الصَّغير الذي غادرها ليدرس في المَدينة لتظل هي منشغلة بأحوالي، فقد انتقل الشجَنُ إلي، وكم يشغلُني ويُهمُّني حالها حفظها الله.

نشر في صحيفة الجزيرة

الخميس، أكتوبر 06، 2016

لبيك حجا.. لبيك حبا



لبيك اللهم لبيك... حاجاً فرحاً بلقاء الله هناك، حيث أرضه الطاهرة وكعبته المشرفة، حيث الكرم الإلهي يتجلى، حيث الفعل الفوري والجزاء الفوري الذي يقابل التعب والمشقة بجوائز المغفرة واستجابة الأمنيات. 
الحج عبادة تطهر الروح، وتدريب للنفس على الانضباط والتسامي فوق كل الصغائر أمام عظمة الله، نرفع له أصواتنا بالتكبير والتعظيم والمنة، فيتضاءل كل شيء أمام هذا الوعي الذي نكتسبه لحظتها، نَكبُر بالتكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الحج التذاذ المحب بمناجاة حبيبه، سعادته بلقائه، بالاعتراف أمامه والتخفف من أحمال الدنيا في مشهد يذكرنا بمشهد الآخرة، فالناس في حشر للتنسك والتعبد والتخلق بالأخلاق الحسنة، فهناك لا رفث ولا فسوق ولا عصيان، طلباً للعودة إلى فطرتنا الأولى يوم ولدتنا أمهاتنا.
  • أشكر الله أن شهدت حج هذا العام في ضيافة وزارة الإعلام والثقافة السعودية، مع إعلاميين ومثقفين من شتى بقاع الأرض، حجاجاً وبطبيعة عملنا مراقبين لكل ما يدور في جنبات مشاعر الحج وكيف تتم رعايتها، وهنا يمكنني القول: لا فرق بين ما سمعت ورأيت وعايشت، فكرم الضيافة وحسن الإدارة عنوان لموسم هذا العام.

كان لقاؤنا الأول في جدة، حيث توافدنا على مدى أسبوع كامل، مستضافين في أحد الفنادق، مُحاطين بالرعاية والاهتمام، وتحت تصرفنا وحولنا كل الإمكانات التي تسهل لنا الحج ومناسكه أولاً، وأيضاً العمل من خلال المركز الإعلامي المجهز بكل ما يحتاج إليه الصحافي اليوم، ومن هنا وغيره من المراكز الإعلامية في مكة أيضاً نُقلت آلاف المشاهد والصور والنصوص عبر شاشات التلفزيون وفي مواقع الإنترنت أو في الصحف المكتوبة والإذاعات، فالعالم كله تتجه أنظاره إلى مكة، وأمامنا كل شيء متاح للنقل والتوثيق. هذه الصورة المنظمة والكريمة لن تقتصر على مجتمعنا الصغير من الإعلاميين، بل على كل شيء يدب على الأرض الطاهرة مكة المكرمة، بمستويات مختلفة ومتعددة، فمئات الآلاف من المدنيين والعسكريين موزعون بين كل متر ومتر في مكة وبقاعها في خدمة الحجيج بأعمارهم، شباناً وشيوخاً ونساء وأطفالاً، في مشهد مؤثر يُعلي من قدر السعودية حكومة، ويظهر معدن شعبها المضياف، حيث صادفتنا مبادرات خاصة كثيرة، تقوم بتوزيع الماء مجاناً أو حتى «الآيسكريم» ووجبات الطعام والمظلات والفواكه والعصائر، وكل هذا عطاء لا ينفذ طوال موسم الحج ولا يتوقف.
  • بعد أن أدينا ما يلزم لنية الحج والإحرام، اتجهت بنا في الثامن من ذي الحجة الحافلات المُخصصة لنا إلى مبنى ومخيم وزارة الإعلام والثقافة السعودية، استعداداً ليوم عرفة، وكان اللافت في كل الأماكن تلك السلاسة التي تمت معاملتنا بها، على رغم الضغط الكبير الذي يواجهه الطاقم القائم على الإشراف، ولا أخطاء تكاد تُذكر، ولا شيء يمكن أن يشغلك، كونك إعلامياً، ولن تمر مشكلة ما لديك من دون أن يجد لها الطاقم حلاً.

وصباح التاسع من ذي الحجة استيقظنا للذهاب إلى جبل الرحمة، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ستبدأ مشاهدة صور مؤثرة تعكس روح هذه الدولة وهذا الشعب وأصالته، وكانت أبرز تلك الصور هي صورة الجنود الذين يقفون بين كل متر ومتر من حولنا في الأماكن المقدسة، يرشون الماء على الحجاج في شدة الحر والشمس، يسعفون المريض ويساعدون العاجز ويتلطفون إلى الطفل، ويجيبون عن الأسئلة ويدلّون التائه وينظمون الزحام، حرصاً على عدم وقوع أية حوادث.
كانت صورة الجندي أهم الصور الإنسانية الجميلة التي يلتقطها الحجاج بهواتفهم الذكية وهم يقضون مناسكهم، ومن بين تلك الصور عالية التأثير هو ذلك الجندي الذي كان يرفض تصويره وهو يرش الماء على الحجاج، حتى لا يذهب أجره.
  • ومن عرفة الحج الأكبر إلى مزدلفة ومقر آخر لوزارة الإعلام والثقافة هناك، بتنا ثم اتجهنا إلى طواف الإفاضة والتحلل والهدي، ثم يوم العيد إلى أن بتنا في منى بمقر وزارة الإعلام والثقافة، إذ استضافتنا منى أياماً عدة لرمي الجمرات.

وهناك في استراحة ومسجد المخيم، التقينا وزير الإعلام والثقافة الدكتور عادل الطريفي، في حديث عن أهمية نقل الصورة الصحيحة عن الإسلام، وفي أيام منى الثلاثة بدأت صورة أخرى تتضح أكثر، وهي ارتباط الحج بتمتين العلاقات الإنسانية الإسلامية، وإزالة الفوارق وتعريف الناس ببعضهم وفتح آفاق جديدة للإنسان، فإذا كانت العبادات في بعضها لها ارتباط بالعلاقات بين الناس الذين ينتمون إلى بقعة واحدة وثقافة واحدة، فالحج يتجاوز الحدود، لينظم علاقة من ينتمون إلى فكرة واحدة، وهي الإسلام، على رغم انتمائهم إلى أماكن وثقافات وخصائص مختلفة، هناك تعارفنا مصافحة بالأيادي أو بابتسامات العيون، شعرنا بالامتنان لاجتماعنا في تلك الأيام العظيمة وأكلنا من مائدة واحدة، واستمعنا إلى خطبة واحدة، وذهبنا في طريق واحد، وتعارفنا واستمعنا لهموم بعضنا في تناغم وانسجام، وخرجنا بوعد التواصل في هذا العالم الذي أصبح نافذة صغيرة تجمع حولها العالم، وشعرنا بالامتنان أن جمعنا الله في مكان طاهر كمكة.
  • لا أحاديث في السياسة بيننا بصفتنا إعلاميين ومثقفين، وإذا ما كانت هناك نقاشات قصيرة وسريعة هنا وهناك فقد كانت إيران للأسف محوراً للألم حين يتحدث بها الإيراني الذي يعيش في منفى نتيجة قمع النظام الحالي، أو العراقي الذي يشكو تدخلها في بلده، أو السوري اللاجئ الذي شردته مشاريع إيران التفتيتية، أو نحن اليمنيين الذين طاولتنا نار إيران وفوضويتها، غير أن هذه الأحاديث سرعان ما تخبو لمصلحة العبادة والصلاة والتنسك وعيش لحظات الروحانية، يساعد في ذلك الاهتمام الكبير من المنظمين، أما تسييس الحج من إيران فذلك جانب آخر واجهته السعودية بتحويل كل محاولة للتصيد إلى انتصار جديد، وقد كان الرد بالفعل، وإنجاح موسم الحج باحترافية معتادة.

أخيراً، لا ملاحظات لدي، غير الشكر والامتنان لله أن وفقني لأداء هذه الفريضة، والشهادة الصادقة بالجهود المباركة التي بذلتها السعودية في رعاية الحج ووزارة الإعلام والثقافة، وفهمنا من أحاديث أمير مكة خالد الفيصل ووزير الإعلام والثقافة الدكتور عادل الطريفي أن رؤية المملكة هي في نقل صورتنا الحقة للعالم، والتميز في تنظيم أهم العبادات، باعتبارها نموذجاً لجمع كلمة الأمة، وهذه الصورة تعنينا جميعاً بصفتنا مسلمين، لتقديم أنفسنا دعاة سلام بعد أن شوّه البعض انتماءنا لدين الإسلام، بل انتماءنا للإنسانية نفسها. ودّعت البيت الحرام وفي عيني دمعة مفارق، وفي قلبي شوق إلى العودة إليها. اللهم حج مبرور وسعي مشكور.

نشر في صحيفة الحياة الرابط

الاثنين، أغسطس 29، 2016

في ذكرى وفاة الشاعر الكبير عبد الله البردوني


في مثل هذا اليوم (30 أغسطس 1999) رحل عبد الله البردوني أعظم الشعراء اليمنيين، ولأنه في لحظات حياته انحاز للبسطاء وللشعب، كشاعر وإنسان ليصبح رمزا للذات اليمنية، فمن الطبيعي أن يكون الناس أكثر انحيازا له، فهو الحاضر في عقولهم وقلوبهم وهو عندهم المهرجان والاحتفاء.
كان يعرف لمن يكتب حرفه، على من يستند ولمن سيترك موروثه الذي يتردد عذبا على كل لسان وينتشر وعيا في كل عقل، فكان من اليمنيين القلائل الذين احتلوا مساحة واسعة في صدور اليمنيين، وأنا واحد منهم.. بحثت عنه في كل مناسبة ومناسبة ومن خلال عملي كمحرر ثقافي في عدد من الصحف على مدى أعوام كتبت عنه ما استطعت واقتربت من عوالمه الشعرية وانبهرت بأفكاره الفلسفية خاصة. كان في الشعر صدر تاريخه، وللفلسفة والفكر اليمني ديباجته.
هنا أعيد بعض بحثي عنه واستطعت الوصول له عبر الانترنت، وما زال لدي الكثير لأكتبه أو لأشير إليه.
.
.
.

  • البردوني.. بحث عن الذات اليمنية


بعد سنوات من رحيله وفي الذكرى الرابعة عشرة التي تحل في 30 أغسطس هذا العام، السؤال الذي علينا إعادة الإجابة عنه ما الذي علينا استدعاؤه من البردوني ؟ فإضافة إلى قول البردوني للشعر كمتنبي عصره، ونشر دارسات نقدية في الشعر والشعراء وفي الفنون الأخرى،  حرص على تسجيل تصوراته الفلسفية الفكرية عبر كتابات اجتماعية سياسية انشغلت بموضوعات الثورة والبناء كعمليتين متلازمتين تفضي الأولى إلى الأخرى.
ينشر "المصدر الثقافي" مقتطفات من كتاباته البردوني الفكرية الاجتماعية السياسية، تعطي القارئ نبذة عن المبادئ التي دعا إليها البردوني في الحكم وإدارة الدولة في فن الانحياز للمواطن والوطن، وتبيين ما يجب وما لا يجب من وجهة نظره.

  • عبد الإله القدسي أحد قرَّاء البردوني:

كان دائماً يقول: علي أن أقول كلمتي وهي تستفز وتقاتل إذا انتصرت لا أفرح بانتصارها وإذا سقطت لا آسف على سقوطها" ولم يكن يجامل أحداً كما لم يكن فجاً*
 له محاضرات ألقاها في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لم تنشر على الإطلاق وهي مسجلة لديهم، رغم أن نشرها مهمة الاتحاد

  • ورثة الشاعر البردوني يمنعون نشر أعماله
خبر يمن برس


  • البردوني.. المهم أفكاري وليس أنا

في الذكرى الرابعة عشرة لوفاته 30 أغسطس 2013،يبلغ الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني من الحضور 74 عاما وربما أضعافها فهو كجده المتنبي “يسهر الخلق جراء حروفه ويختصمون”، كل هذا العمر ونحن في علاقة وثيقة معه نصطحبه لنتعلم ولنعزز انتماءنا للعالم، ونجيب على أسئلة الثورة ونضع لبنات التحديث.
وحده البردوني لم يصبه الغياب قط مذ ولد شرق ذمار في قرية بردون عام 1929م، ولم يصبه العمى مذ أكل الجدري عينيه في السنوات الأولى لطفولته، غير أن ما أصابه هو الحديث عن الغياب من جهة من يحبونه مرددين أن حضوره وغيابه تحدده الجهة الرسمية رغم حضوره الطاغي في وجدان اليمنيين كرمز قلما حظي به إنسان آخر.



  • البردوني.. أبونا في الثورة

ينقلنا البردوني إلى أنفسنا باحترام وتقدير وينقلنا إلى الآخر بعبقرية وعذوبة وإلى كل جديد من حضارات وبشر بتحد وفخر وخلود، بمثله يثق اليمنيون فيعلنون أن منهم عبدالله البردوني.
إذا ما قيل بأن الإنسان موقف، فالبردوني مثال حيَّ للإنسان الذي لا يتنازل عن موقفه وإن كلّفه حياته، انحاز دائماً إلى وطنه وشعبه، فكان صوتاً مدافعاً عنه. رمزاً شعَر معه اليمنيون باطمئنان على ذواتهم.




الخميس، أكتوبر 01، 2015



يُعد الشاعر اليمني محمد المسَّاح (1948) أحد شعراء «الموجة الأولى» من روَّاد قصيدة النثر اليمنية من الجيل السبعيني في القرن الـ20، ومن القلائل الذين أبقوا على تفاعلهم مع الكتابة والحياة بروح فلاّحٍ بسيط يعرف في أي أرض يلقي بذوره.
فهو يواصل حتى الآن كتابة عموده الصحافي اليومي «لحظة يا زمن» في أخيرة صحيفة الثورة، وهي لحظة خارجة عن زمننا المُعتاد، تفصل قراءها عن بؤس الأخبار الرسمية ودوار السياسة، ومساحة موازية تكفي لاقتنائها وحدها ولحفز الجوانب الجمالية.
في يومياته تلك يلتقط الشاعر صوراً مكثفة، وبزوايا جديدة وغير مألوفة لحركة الأشياء وثباتها في بيئته، ويقدم مختارات من قراءاته لكتَّاب ومُفكرين وشعراء لا تقل أهمية عن كتاباته الخاصة وهي تتنزه في عقول مفكرين وأدباء من العالم، لتكشف سعة اطلاع الشاعر واستثنائية المثقف: «كان لدي أعمدة صحافية مختلفة، أولها بعنوان: «لقطة من الزاوية» وآخر «لقطة من عين الكاميرا»، استمرا على التوالي أربع سنوات، وبعدها بدأت بكتابة عمود «لحظة يا زمن» عام 1976، كنت أواظب على كتابته ثلاثة أيام في الأسبوع، ثم تحولت إلى كتابته يومياً، وقليلاً ما توقفت بسبب أوضاع سياسية معينة، أو لأسباب شخصية أشعر فيها بأنني استنزفت في الكتابة، وهي فترات قصيرة جداً». في نصه المفتوح يتكئ المسَّاح على لغة شاعرة وتقنيات كتابية متداخلة تتناول الأشياء بأسلوب أدبي مُفكر يصعب تصنيفه: «أعطيتُ اللحظة طابعاً خاصاً ما بين النثر واللغة المباشرة أحياناً، إذ هي بالنسبة لي عبارة عن لقطة ألتقطها وأنا عابر ثم أقوم بتشكيلها وكتابتها بطريقتي، ومضة أو أقصوصة صغيرة جداً، والمُختارات هي ثمرة قراءاتي في الكتب واطلاعي، وأختار منها ما يعبر عن الواقع».
بدأت علاقة المسَّاح بالكتابة والشعر في السبعينات، إذ حصل على منحة دراسية 1970 في جمهورية مصر العربية ضمن أول دفعة للثانوية العامة، لدراسة الصحافة في جامعة القاهرة، وهناك تفتح وعيه على الأدب والمسرح والسينما، وكانت مصر في أوج نشاطها الثقافي الذي أثرى الوطن العربي، وتابع عن قُرب شعراء وروائيين، كجمال الغيطاني وبهاء طاهر وعبدالمعطي حجازي وعبدالحكيم طاهر وأمل دنقل. «بدأت كتابة القصيدة النثرية مباشرة من دون المرور على أشكال ما قبل النثر، واحتفى النقاد، أنصار الجديد والغريب على بيئة تقليدية، بما نكتبه - قصيدة نثر - أنا ومجموعة من الشعراء، منهم عبدالرحمن فخري وعبدالودود سيف وعبدالله قاضي وغيرهم، ونشرتُ أولى قصائدي في مجلة «الكلمة» التي كانت تصدر في مدينة الحديدة، ويترأس تحريرها محمد عبدالجبار سلام عميد كلية الإعلام حينها».
في حديثه يركز المسَّاح على ذكر أسماء جميع من يعتقد أنهم أدوا دوراً في خدمة الأدب والثقافة، ولم يأخذوا حقهم من الاهتمام «المؤسف أن الأجيال الأخيرة من كتَّاب النثر يسهمون في تجاهل من قبلهم، فلا يقرؤونهم، وهذه مسألة تطرح عليهم بوصفهم جيلاً أصبح يعتمد على نفسه أكثر وفي حال قطيعة مع الكتابة والتواصل مع الرواد. بعضهم يزعم أنهم جيل بلا آباء، كأنهم نزلوا من السماء؛ نوع من الغرور الفارغ، الذي سيكون مصيره النسيان أيضاً». وفي شأن تطور قصيدة النثر اليمنية، يرى المسّاح أن الحدث السياسي في العقود الثلاثة الأخيرة طغى على كل شيء، بما فيها قصيدة النثر، وأصبحت الأحكام غير قطعية في شأن تطورها، إضافة إلى أن تداخل الوسائل العصرية والحديثة حد من التفاعل والانفعال، وهذا التراجع شمل الثقافة وأدواتها عموماً». كانت علاقة الشاعر بالسياسية متذبذبة وتأتي في مرتبة ثانية بعد الأدب، وانتهت بأن أصبح ارتباطه باليسار معنوياً، بعد أن انتمى في البداية إلى الحزب الديموقراطي الثوري الذي كان مقره الجنوب، والذي سيتوحد لاحقاً ومنظمات أخرى ليصبح الحزب الاشتراكي اليمني بشكل اليوم، وفي ظل الصراع السياسي بين الجنوب المتحزِّب والشمال الذي يجرِّم الحزبية تعرَّض لتجربة السجن 1973 ستة أشهر في «القلعة» بصنعاء، كان ذلك بعد عودته من مدينة عدن، وقبلها إزاحته السريعة من منصب رئيس تحرير صحيفة الثورة الرسمية، بسبب مقالاته الناقدة ورفضه التدخل في السياسات التحريرية. إلى أن عاد تدريجياً للعمل عضواً في هيئة التحرير ومشاركاً في تحرير صفحاتها الثقافية، ثم كاتباً يقتسم مع صحيفته تاريخها.
وعلى رغم غزارة إنتاج الشاعر، فإن أعماله خارج أغلفة الكتب وفي حاجة إلى جمع، وهو أمر يعتقد أن عليه تركه للزمن: «في كثير من الأحيان أحدث نفسي بأنَّه ليس ضرورياً أن يكون لي كتاب، لكني فكرت في جمعها، وخصوصاً أنَّه لا مبادرات من جانب المؤسسات الأدبية، والنشر يعتمد على الجهد الفردي للشاعر».
حالياً، يواصل المسّاح عادته في التنقل بين الريف بلده التربة محافظة تعز التي يعيش فيها، والمدينة صنعاء التي عمل بها، ليقطع مئات الكيلومترات، جيئة وذهاباً، بقلب لا يُحب المُدن: «ليست العلاقة رومانسية بقدر ما هي نوع من البحث عن الملاذ، الريف فيه بساطة. مع العولمة توحشت المدن فدمرت القيم الإنسانية، كالصداقة والأخوة وأشكال الترابط المجتمعي، وتحديداً مدن البلدان المتخلفة التي لم تبن بشكل طبيعي بل على شكل قفزات، ولهذا تجدها تعكس واقع التخلف نفسه، وتصبح الحياة فيها صعبة لا تمنحنا حرية التأمل كما يمنحه الأفق الرحب للقرية. المدن قطَّعت علاقتنا بالطبيعة، لم نعد ننظر إلى القمر والنجوم، في القرية تعيد علاقتك بالطبيعة وتوجد حواراً مع الأشياء».


حمَّال أرواح
 يبدو أن صاحبي لا يغطس في الزمن.. الزمن حبيبات رمل تطير مع الريح، وماء ينسكب من طرف البركة.. ويذهب في مجراه.. غير آبه.. إذا كان هناك سابح بالفعل، ويستعرض مهاراته السباحية. الزمن حمال أرواح.. دائماً وأبداً ما نسمع أغانيه الشجية التي تذيب القلب، ونحن نودع أولئك الذين حملهم الزمن فوق أكتافه. ورحلوا معه.. وغابوا في آخر الطريق.. يظل الزمن عموداً للشمس التي لا تغيب في حدقة العين..
إلاّ حين تغيب الحدقة وقد أحرقتها الشمس.. ذهب النظر وظلت الشمس هناك في الأعالي العظيمة.. في الزمن عظمة أنه لا يتدخل ولا يلمس أبداً.. مسائل الإنسان من قصص الاختلاف أو التغاير.. أو العراك الفارغ وإن مثل الزمن.. فقد مثل الروح.. لكنهما الاستحالتان اللتان لا يهضمها عقل الإنسان حتى وقد وصل منتهاه وهو يستنسخ ذاته. يظل الزمن إمبراطوراً لا يلمس ولا يرى.. شاهداً لا يراه الإنسان وهو لا يلمس ولا يتكلم يظل هناك في غيهب المكان في دوران الحركة لا أحد من كبار الأذكياء أو من عظماء الفاهمين قد شاهد الزمن أو استصحبه أو خالـله.. الزمن غور الطبيعة.. التي لم يرها الإنسان إلاّ في الثانية الوحيدة.. قبل الموت.

الذي لا يأتي
 هي النفس كلما عنَّ لها الوجد، تتحامل مع ذاتها لترى العالم من نافذة الروح. تصفعها الريح الباردة.. وتقذفها إلى الداخل من جديد.. وتصطفق النافذة، وتعود النفس لتنطوي على ذاتها تقتات من بعضها، وليس في الخارج سوى الطبيعة وحدها تجالد الريح والصقيع تظل الأشجار وحدها لا تخلف المواعيد.. تتفتح أزهار البرقوق وينبثق ذلك البياض يزهو يقاتل الصقيع لا تخيفه الريح السافعة.. ولا يصغي لعوائها الدائر حول الغصون .. هي الريح الباردة والجافة تجري في الدروب والطرقات، وكلما عوت وعلا صريرها ينطوي الناس وينكمشون في زواياهم يغلقون الأبواب والنوافذ، يتسلى البعض منهم، حيث يتحلقون ويحدقون في شاشات ملونة يتابعون حكاياتٍ.. أرقاماً معارك.. حروباً.. وأدخنة قنابل والبعض يتابع أرقاماً تتوالى تصعد وتهبط في بورصات تتوزع في أركان العالم.. سوى الريح.. تعوى في الدروب والطرقات.
ويظل المشردون واللاجئون والمهمشون يسيرون ويتباطؤون.. البعض منهم يغرق في البحور والبعض الآخر يدفنون في الأعماق.. سوى الريح الباردة الجافة.. ما عدا الطبيعة بأشجارها.. لا تخلف مواعيد الفصول.. وتذهب النفس شتى الأرجاء تبحث عن ملاذ للروح.. فلا تجد غير العودة إلى ذاتها.. حيث لا ملاذ غير الانطواء وانتظار الذي لا يأتي!

نشر في صحيفة الحياة

الأحد، أغسطس 09، 2015

صدور مجموعتي الشعرية الثانية




هناك، على الطاولة نسخ من ديواني الثاني "شجر لا ظل له" صدر حديثا في القاهر عن دار أروقة للنشر والترجمة.
جاء في غلافه الأخير ما كتبه الشاعر والناقد وعضو لجنة تحكيم مسابقة اثير الشعرية حسن المطروشي: (في قصائد مجموعة "شجر لا ظل له" تتماهى كل عناصر الوجود واحداثه وأصواته ليستدرجها جميعا في نص مشع بالغ الدهشة منفتح على عوالم لا متناهية تعبرها اطياف الحبيبة والوطن والاحلام والانكسارات البليغة. تعكس قصائد المجموعة التي توزعت بين الشكلين التفعيلة والنثر تجربة شعرية جديرة بالتوقف والتأمل يبرز خلالها صوت شعري نقي وحزين.)


مركز التوزيع في القاهرة: مكتبة ليلى - وسط البلد


الخميس، مارس 19، 2015

نبيل عُبادي: النشر في يمن غير سعيد



يقف الناشر اليمني نبيل عُبادي على بوابة "غاليري صنعاء" لاستقبال زوَّار "معرض عبادي للكتاب" (12 ـ 30 آذار/ مارس) الذي يهدف تنظيمه هذه المرة إلى استثمار عائدات المبيعات من أجل تأسيس جائزة سنوية للكتاب، ما يجعله يبدو كمعرض أخير لأشهر ناشر يمني قبل اعتزاله.
ينفي عُبادي ذلك، في حديثه إلى "العربي الجديد"، ويسمِّي ما يقوم به "إعادة ترتيب" لمكتبة افتتحها جده الأول عبادي حسن محمد علوي في مدينة عدن عام 1890، وكانت مركز توزيع للكتاب العربي في اليمن، توارثها بعده جيلان، إلى أن أسّس عبادي، بعد أن أنهى دراسته لعلوم البيئة في ألمانيا، "دار عبادي للدراسات والنشر"، عام 1990، كامتداد للمكتبة التي أصبح مقرّها صنعاء، عاصمة الوحدة اليمنية.
يضيف عبادي إلى دوافعه من تنظيم المعرض واستثمار عائداته، حرصه على استمرار نشاط الدار في خدمة الكتاب اليمني: "لم يرزقني الله أبناء، وبالتالي ربما أكون آخر جيل في عائلة عبادي، ولا أريد لرسالتنا أن تتوقف".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المكتبة كانت جسراً بين ما تنتجه العواصم العربية من كُتب وبين اليمن. وفي سنوات تحوّلها داراً للنشر، عملت كحلقة وصل بين القارئ اليمني تحديداً وأجيال أدبية مُختلفة صدَرت مؤلفاتهم عن الدار، نذكر منهم الروائيين وجدي الأهدل وسمير عبد الفتاح ومحمد مثنى، والشعراء محمد الشيباني ومحمد عبد الباري الفتيح وشوقي شفيق وطه الجند ومحمد حسين هيثم وأحمد العرامي، وغيرهم من الأدباء الذين صدرت أعمالهم، كما يشير عبادي بفخر، "ضمن سلسلة إبداعات يمنية التي استمرت أربعة عشر عاماً وتضمّنت 479 عنواناً".
ولعل أبرز تلك العناوين التي أثارت جدلاً ومشكلات رواية "قوارب جبلية" التي اتُّهم مؤلفها، الكاتب وجدي الأهدل، بالإساءة للذات الإلهية، ما تسبّب في نفيه خارج وطنه، فيما أغلقت الدار فترة قصيرة ثم أعيد فتحها بموجب حكم قضائي. وكادت الحادثة أن تقضي على حُلم عبادي في الحفاظ على إرثه المُرتبط بصناعة الكتاب، لكنه ما لبث أن تجاوز هذه الأزمة ومعها الصعوبات التي يواجهها في مجتمع تتدنى مستويات القراءة فيه، وتضعف حركة التوزيع والنشر وصناعة الكتاب بشكل عام.
وتنعكس معاناة النشر لدى عبادي ومخاوفه من توقف ارتباطه بالكتاب اليمني، في مشروع الجائزة نفسها والهدف منها، إذ ستُمنح سنوياً للكتاب المتميز الصادر في عام الجائزة، على أساس معايير التأثير في الحراك الثقافي في المجتمع، إضافة إلى طموح المشروع في تقديم جوائز فرعية تذهب لدور النشر وعناصر صناعة الكتاب في مراحل مختلفة حتى صدوره. وسيشرف على الجائزة مجلس أمناء يرأسه عُبادي حتى وفاته، ليختار هذا المجلس والورثة من بعده مَن يديرها بآلية يوصي بها المؤسس.

السبت، مارس 07، 2015

المسرح اليمني.. مائة عام من الانتظار



رغم أنه أكمل، هذا العام، ما يربو على قرنٍ منذ ولادته، إلا أن المتلمّس لأحوال المسرح اليمني لا يجد أن سيرته تنعكس إيجاباً على حاضره وتدل على عراقة استَهلت عروضها الجادة بمسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير في مدينة عدن عشريّات القرن الماضي. 

المحاولات الفارقة في عمر المسرح اليمني قليلة، وجاءت على يد روَّاد مثل عبد الله المسيبلي، ومحمود أربد، وأحمد الريدي، وفيصل بحصو، وفريد الظاهري، ونرجس عباد، وصفوت الغشم، ونبيل حزام. وهي محاولات متباعدة ومنفصلة عن تاريخها، مُعتمدة على تجارب خاصة توثقت صلتها بالمسرح العربي نتيجة السفر والدراسة أكثر من امتدادها المحلي.
فمنذ الأعوام التي أعقبت البدايات وصولاً إلى الستينيات وما بعدها، شهد النشاط المسرحي في البلد حركة ارتبط توهجها وخفوتها بالمزاج السياسي واهتمامه من عدمه. ولم ينج المسرح من توظيف السياسة له، وهو حال يعيد نفسه اليوم وبصورة أضعف.
يعزو الكاتب هائل المذابي في حديث مع "العربي الجديد" عملية إجهاض التنوير في المسرح اليمني إلى "عدم وجود عمران مسرحي خاص به". ويشرح: "تم تغييب هذا العمران في اليمن في مرحلة من المراحل لأسباب سياسية، تحديداً في الجنوب. ولا أعتقد أن المراكز الثقافية في المحافظات قد أغنت ونابت عن وجود عمران مسرحي خاص بالمسرح. فالمدة التي تسمح بها تلك المراكز للمسرحيين للاشتغال على عروضهم هي يومان فقط قبل تقديم العرض. يضاف إلى ذلك غياب الفنان والكاتب والمخرج. نحن إزاء القليل من الاشتغال الذي لا يقاس عليه أو يحكم به".
في السنوات الأخيرة، ظهر تعاون بين مراكز ثقافية أجنبية وفرق مسرحية محلية، غير أنها باتت في حكم المتوقفة اليوم، مع الأوضاع الراهنة. نذكر من هذه التجارب مسرحيتي "مريض الوهم" لموليير (2010) لـ"فرقة موليير"، والتي أنتجتها وزارة الثقافة اليمنية بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بصنعاء، ومسرحية "معاك نازل" لفرقة خليج عدن (2010 - 2012) التي أنتجت بالتعاون مع "البيت الألماني"، وهي مقتبسة عن مسرحية "الخط رقم واحد" الألمانية. ما تبقى الآن من هذه الظاهرة هو تبني منظمات محلية وأجنبية التعاون مع فرق شابة لتقديم عروض مسرح تفاعلي في المحافظات. ويرفض المذابي أن يكون لذلك "علاقة بفن المسرح وجوهره".
إذ يعتبر أن استخدام المسرح يقتصر كونه "وسيلة للتوعية فقط، فيكون للموضوع التعليمي طغيان على اعتبارات فنية أخرى". مدربة المسرح، والشاعرة أيضاً، ميسون الإرياني، لها رأي مختلف، إذ ترى أن استعانة المنظمات بالمسرح لا ينفي أنه فن قائم بذاته. "العروض خير دليل على أنه يأخذ أبعاداً فنية في عناصره، ويمكن البلوغ به أعلى مراتب الفن إن توفرت الإمكانيات اللازمة". وحول عملها في التدريب تضيف: "نحرص على إخراج ممثلين محترفين لديهم قدرة على الارتجال والتواصل مع الجمهور بحيث لا تفقد المسرحية قيمتها وهدفها في إيصال رسائل ومناقشة قضايا شديدة الحساسية لدى المجتمع والسلطة".
وترى الإرياني أن وجود فرقة وطنية للمسرح قد يكون فكرة جيدة لإنعاش الخشبة اليمنية، وهو ما سبق أن عرضته على وزارة الثقافة، غير أن الرد، كمان تقول، كان مخيباً بحجة عدم وجود الميزانية. "المشكلة ليست في الميزانية"، تقول، "بل في انعدام الوعي".
بلغ المسرح اليمني من العمر أكثر من 100 عام، إذاً، غير أنه ما يزال في انتظار التحول إلى حاضن دائم لتجارب جادة وفارقة تكون هي القاعدة، لا الاستثناء.


الأحد، مارس 01، 2015

فؤاد الشرجبي: الغناء في زمن المليشيات


يحاول المؤلف والموزّع الموسيقي فؤاد الشرجبي (1975) ملء الفراغ الذي يتركه غياب مشاريع تعنى بالموسيقى اليمنية وتراثها. ففي عام 2008، أسس "البيت اليمني للموسيقى"، ومن إنجازات هذا المشروع، توثيقه لعدد كبير من الأغنيات التراثية جمعها فريق ميداني من مدن اليمن وأريافه عبر شفاه أصحابها وحافظيها.
يوضّح الشرجبي في حديث مع "العربي الجديد": "كان همُّنا توثيق التراث بقاعدة بيانات حفاظاً على حقوق الملكية والحقوق المجاورة لحقوق المؤلف. تراثنا مشاع يُغنّى ونادراً ما يُنسب إلى جذوره. وعلى المستوى المحلي، يقوم فنانون يمنيون بسرقة الألحان وغنائها من دون حفظ الحقوق بسبب عدم وجود قانون يمنع التعدّي. ولأن مجتمعنا يعاني ضعفاً في الثقافة موسيقية؛ حرصنا على إقامة دورات في العزف استفاد منها مدرّسو المدارس التي ما زالت مادة الموسيقى جزءاً من مناهجها، وكل من يرغب بدراسة الموسيقى بشكل علمي".
الفاصل القصير الذي أبعد الشرجبي عن شغفه الموسيقي الباكر، هو انتقاله من مدينته تعز إلى صنعاء لدراسة الحقوق في جامعتها. لكنه لن يلبث، بعد ذلك، أن يسافر إلى دمشق للدراسة في "المعهد العالي للموسيقى". وفور تخرّجه، أسس عام 2000 أول أستوديو رقمي في اليمن:
"عدتُ لأجد ظواهر من الإنتاج التجاري تقف خلفه فنانات يلبسن النقاب. كان الأمر بالنسبة إليّ بمثابة تحدّ، فسجَّلت عدداً من الأعمال الفنية المميزة. وفي لحظة معيّنة، هجمت علينا شركات الإنتاج الفنية لتسجيل أعمال تجارية، وقادتني الحاجة إلى الرضوخ لما رفضته في البداية، لكني تداركت ذلك وقررت إغلاق الأستوديو، وعلى أنقاضه أسّست البيت اليمني للموسيقى".
ارتبطت بدايات الشرجبي ببعض الأعمال الفنية المُهمة قياساً بزمن إنتاجها، فهو مُلحن أغنية مسلسل شعبي شهير في اليمن ("دحباش"، 1990) التي يراها "تجربة متواضعة كحال المُسلسل"، ويحمِّل السَّاسة مسؤولية استغلال المسلسل وتشويه الفن: "رغم شعبية المسلسل في الجنوب حينها، إلا أن هناك من وجَّهه سياسياً ليثير الفرقة بين شعب واحد هو ضحية للتسلط السياسي".
في رصيد الشرجبي أعمال في الموسيقى التصويرية لمئات المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، أبرزها المسلسل الإذاعي "إلا الحب"، ومسلسل "حكايات وأساطير"، ومئات الأغاني للأطفال. وفي هذين النوعين، يتركّز عمله على تلحين بعض الأغاني وإعادة توزيع القديمة منها بأصوات فنانين جدد، ضمن واقع يعيد غناء الماضي ولم يعد ينتج سوى اليسير من الجديد.
ويعزو الشرجبي ما يسمّيه التخلف الموسيقي إلى "حقبة مشوّشة عبثت فيها الصراعات السياسية باستقرارنا، وقلما تزدهر الفنون في أوضاع مضطربة لبلد ليس فيه معهد واحد للموسيقى، وشركات الإنتاج مشلولة وفنانوه هاجروا إلى بلدان أخرى بحثاً عن لقمة العيش".
ولا ينسى الشرجبي أن يسجِّل موقفاً ضدّ موجات تحريم الغناء، كالتي ظهرت مع اجتياح الميليشيا المُدن اليمنية ووصلت حدّ منع الفنانين من الغناء في المناسبات بالقوة: "نرفض هذا جملة وتفصيلاً بما فيه من تدمير للأفق المتبقي للناس، وتضييق على الفنون التي ينقص فضاؤها يومياً، ما يؤدّي إلى تجفيف أرواحنا".
رغم ما يعيشه الغناء اليمني من تراجُع غير مسبوق، يظلّ الأمل لدى الشرجبي قائماً، مع أن حلمه يُقابَل بالتجاهل كلما عرضه على الجهات الرسمية: "أحلم بإنشاء فرقة موسيقية وطنية، مبنية على أسس علمية، لتأهيل عدد من الشباب الموهوبين نستطيع الوصول بهم إلى المستوى العربي خلال فترة زمنية محددة. سيُحدث ذلك نقلة في الموسيقى اليمنية ويفتح المجال لتأسيس فرق أخرى تساهم في تطوير الفن اليمني. ولا ينفصل هذا عن ضرورة تأسيس معهد شامل لجميع الفنون بما فيها الغناء والموسيقى".

الاثنين، فبراير 16، 2015

آمنة النصيري.. كونُ حرُّ



مرّت أعوام منذ أن توقف غاليري "كوْن"، أو مرسم الفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري (1967). كان المكان ملجأً صغيراً للفنانين، يؤدي دوراً في دعم الثقافة البصرية وفي خلق حراك فني في صنعاء. أتت الاضطرابات السياسية وحوَّلت المدن الرئيسة إلى ساحة صراع مُسلّح، لتنحسر نشاطات الثقافة، ومن بينها المعارض التشكيلية.
لكن النصيري، من جهتها، عادت إلى "كونـ"ها الصغير لتواصل إنتاج أعمالها، وهي تتحيّن الفرصة لتقيم فيه نسخة ثانية من معرضها "17" بعدد أكبر من اللوحات، بعد أن كانت أقامته قبل أشهر في رواق "مؤسسة السعيد الثقافية" في مدينة تعز.
في معرضها الأخير، "أبيض"، قدّمت النصيري رداً أكثر تفاؤلاً يفصل بين لحظة وما قبلها. لحظة تحرّرت من "حصارات" الماضي (معرضها السابق، 2010)، تداوي من خلالها تداعياته المؤلمة وترتّق ثقوبه وتفتح صفحة جديدة متصالحة مع العالم.
لوحات المعرض الأربعون اتّسمت بتعدد الخامات والبناء الفني التعبيري، وهي تقترب من الكولاج، وتؤالف بين الحروفية والتصوير الفوتوغرافي لتصل إلى نص تصعب قراءته بمعزَل عن تفاصيل أجزائه. حول ذلك، تقول النصيري، لـ"العربي الجديد":
"بدأ مشروع لوحات مجموعة "أبيض" منذ ثلاث سنوات، بعد ثورة شباط/ فبراير2011. خشيت أن يقتصر اهتمامنا على التمحور حول الصراع السياسي. وكان همّي الشخصي الذي قدّمته عبر الفن، التركيز على الجانب المضيء لثورات كشفت ما لم نكن نتوقعه وأوجدت صراعات لا آخر لها".
يمكن القول إن أعمال "أبيض" تأتي على النقيض من لوحاتها في "حصارات"، حيث تصدمنا أعمال الأخير المفاهيمية بقسوتها. صوّرت النصيري، من خلال هذه الـ"حصارات"، المعاناة الإنسانية اللامرئية، وكشفتها على مجال مرئي مغروز كمُدى حادة في كيان حسّي أنثوي محجوب ومقموع وعاجز عن الخروج من سجنه.
تقول النصيري: "قد يكون الفنان أكثر تأثراً من أي شخص بما يجرى حوله، وربما يكون تأثره كأي شخص آخر، لكن لديه العمل الفني الذي يمكن أن يعكس من خلاله حريته في التعبير شكلاً ومضموناً. ولهذا قد ينجز تجربة صادمة تثير الكثير من الأسئلة وربما تطرح الأجوبة أو شكلاً منها، وهو أمر مشروع بل وضروري حتى لا يقتصر دور الفنان على إرضاء المشاهد".
تحضر المرأة في لوحات النصيري بوضعها الهامشي والضيّق الذي تعيشه في الواقع العربي ككل، لكن هذا لا يعني أن التشكيلية من أنصار الفكر النسوي أو أنها تتبنّاه في أعمالها الفنية وتعبّر عنه. عن ذلك، توضح: "لست نسوية. أنا مؤمنة أن تطوّر المجتمعات تطوّر واحد وفي الإطار نفسه، وحركة المرأة لا تكون في سياق تاريخي منفصل، وأنا أطرح المرأة كرمز للإنسان وليس للأنثى. لا أقصد المرأة في القمع بل الإنسان، وهي رمز جمالي وفني أكثر شمولية".
تتميّز تجربة الفنانة النصيري في جيلها الثمانيني الذي لم يستجب لكوابح الواقع، وذلك من خلال تواصلها مع المدارس الحديثة في العالم من دون قطيعة مع مجتمعها. وأتاحت لها إقامتها عشرات المعارض الفنية، في عدد من الدول العربية والأجنبية، الاطّلاع المباشر على تجارب متنوّعة تدخّلت في هويتها التشكيلية. ترى النصيري أن "الفنان شخص ينتمي إلى الثقافة الكونية، وكل منجز يحمل خصوصيته وملامح من بيئته، لكن التقييم يعتمد في المحصّلة على مدى جدّة العمل وارتهانه لشروط الإبداع والأصالة بمعناها المرتبط بالتفرّد، وهنا يصبح الانتماء الجغرافي غير ذي أهمية".
وفي حين تحاول الفنانة الخروج إلى مجتمع ثقافي أرحب وتؤمن بلا حدود الهوية التشكيلية، ترى أن علاقة الفن بالمجتمع الأصل شائكة ومُبهمة، وتعزو ذلك إلى منظومة الثقافة التقليدية التي لا مكان فيها للفنون المعاصرة:
"الانفتاح على الإنجازات الفنية الجديدة لن يصل إلى الناس إلا عبر إعلام يحايث المتغيّر في العالم ويتجاوز المحلّي ليخلق وعياً جديداً. تُضاف إلى ذلك طبيعة المؤسسة التعليمية التي يلزمها تطوير مناهجها والتركيز على الإبداع والابتكار وكذلك الفنون. نحن بحاجة إلى خلق وعي يستوعب المحامل التشكيلية السائدة، وهذا يتطلب مرور الوقت والزمن الكافي، إضافة الى وجود حركة فنية ثقافية جادّة ونشطة. من دون ذلك سيبقى الفن في قطيعة مع المتلقي".
إلى جانب كونها فنانة تشكيلية، تدرِّس النصيري مادة فلسفة الجمال في كلية الآداب في "جامعة صنعاء"، وتسعى صاحبة كتاب "مقامات اللون"، إلى رعاية التجارب الشابة من خلال تقديم تحليل لأعمالها.
وعن قراءتها للمشهد الفني اليمني، تقول: "لا أستطيع القول إنه في أفضل حالاته، فالوضع السياسي يطغى على كل شيء. ومع هذا، هناك دائماً فنانون جدد وتجارب شابة رغم هشاشة الوضع الاقتصادي والثقافي. نشاط هؤلاء نابع من مقاومة ذاتية، لكنه ضعيف، ويتركّز في الاتجاهات الواقعية لأنهم يضعون نصب أعينهم المردود المادي نظراً إلى الضغوط الاقتصادية التي تحكم إنتاج الفنان التشكيلي".

السبت، يناير 24، 2015

سمير عبد الفتاح: لا أواجه أحدا


في أواخر العام الماضي، تلقّى الروائي اليمني سمير عبد الفتاح (1971) نبأ وفاته الذي تناقلته مواقع إلكترونية عربية التبست عليها حياة وسيرة وصورة الكاتب المنشغل بإنجاز حكايته الخاصة، وموت كاتب مصري يحمل الاسم ذاته.
لم يُذهل "جامع الحكايات" بالموت، وهو ضيف قديم حلّ في عمله الأول "رواية السيد م" (2007) كثيمة رئيسة. فميم العنوان هو نفسه "الموت" بهيبته ورعبه وحركته الخفية. لكن ربما تصلح الشائعة كتفسير للرواية.
"الحياة ليست رواية واحدة، الموت ليس رواية واحدة"، يقول سمير عبد الفتاح لـ "العربي الجديد". ويضيف: "الموت قائم على تفاهمات يرى فيها أشخاص أنه باب لحياة أخرى، أو خلاصٌ من كل ما عانيناه في حياتنا، أو مجرّد فناء. توجد تفسيرات كثيرة للموت بمقدار ما أرهقتنا به الحياة. فقط ما ولدنا به، البكاء، يبقى الشيء الأساسي الذي يجمعنا بفكرة الموت".
ويتابع عبد الفتاح: "لذا، أي موت لا يرتبط بالبكاء والحزن يكون خارج السياق. وفي هذا الإطار كان موت الكاتب المصري سمير عبد الفتاح وإعلان وفاتي أنا نوعاً من هذه التفاهمات. وللحظة بدا الأمر حقيقياً وقابلاً للتصديق، لكن البكاء ارتفع من مكان آخر وانسحب الموت إلى الجهة الأخرى، مؤجّلاً بُكائي إلى وقت آخر".
بعد روايته الأولى، نشر عبد الفتاح ثلاث روايات، هي "ابن النسر" (ترجمت إلى الفرنسية)، "نصف مفقود" (فازت بـ"جائزة دبي للرواية" عام 2009)، "تماس - حياة أخرى". وقبل ذلك، نشر أربع مسرحيات في كتاب واحد، وثلاث مجموعات قصصية، هي "رنين المطر"، "رجل القش.. لعبة الذاكرة"، "راء البحر".
في ظلّ مُتعة الكتابة التي يعيشها، يذهب بعيداً في التلصص على موجودات لا يفقه البشر لغتها، ندخل معها في لذة حكي الهامش. تنفتح التفاصيل الصغيرة على عوالم أوسع من تصوّرنا لها ذهنياً، وتتضاءل مادة الأشياء أمام روحها المُبتكرة، في رحلة قد تبدو هروباً من الواقع بواسطة الخيال:
"لم أستطع حتى الآن وضع مقياس لتحديد ما الهامش وما المتن، ما الواقعي وما الخيالي، ما الهروب وما المواجهة. الأمر نسبي. وأنا على ثقة بأنني لا أواجه أحداً، أو أنني في معركة لدي فيها خيارات النصر أو الهزيمة؛ المواجهة أو الهروب. أكتب ما أشعر أنه يتماهى معي ومع الآخرين. قد يُنظر إليه بوصفه هامشياً، لكنه في أساسه متنٌ، والعكس".
المفهوم النسبي للسرد في أعمال عبد الفتاح يضعها في خانة تجريب ليس من أولوياته القوالب التقليدية، بينما يبدو أسلوبه كسيرة جوهرية محمّلة برؤى فلسفية صارمة. إنها مجازفة تحسب للكاتب في واقع روائي ما يزال طور تشكّله وبحثه عن قارئ؛ لكنه يعتبرها خياراً مغايراً نتج عن قراءاته القليلة للرواية اليمنية وثيماتها الأساسية، وعن إيمانه بأن على الكاتب أن يكون له مفهومه الخاص ليضيف شيئاً على ما أخذه من الآخرين. كما يرى عبد الفتاح أن "الفلسفة جزء من الحياة، جوهرها الوصول إلى العمق. عندما أكتب أدور في هذه المنطقة غير المطروقة لسدّ الفجوة التي تزيح ما نكتب جانباً".
يجيد عبد الفتاح تقديم نفسه للقارئ بما هو متاح لديه، فأعماله التي طُبعت على حسابه تجاوزت محلّيتها إلى العربية حيث فازت بجوائز، كما صدرت روايته "ابن النسر" في طبعة ثانية عن "هيئة قصور الثقافة المصرية"، وترجمت أعماله القصصية إلى الإيطالية ضمن مشروع "بيرل ديلو".
وهذا يقودنا إلى سؤال عن القارئ الذي يضعه نصب عينيه أثناء فعل الكتابة: "حين أكتب أنسى ما يحيط بي، وتكون المنافسة بين أفكاري والأوراق، أيُّهما سيصمد أكثر. لحظة الكتابة لا تسمح لأحد بمشاركتها عقل الكاتب. في مرحلة المراجعة النهائية، تظهر بعض الأفكار، مثلاً إن كان العمل سيقدَّم إلى مسابقة أدبية أو إلى دار نشر، أضيف إليه ما يجعله متّسقاً لقبوله. يخضع بعض الكتّاب لعدد من الضغوط، مثل درجة تقبُّل القارئ للنص، أو هدف إيصال رسائل ما، وبالتالي يحرصون على تجنيب أعمالهم ما يثير. حتى الآن، لا تحاصرني مثل هذه الضغوط. أكتب، وأكتب فقط".
في عام 2009، أعلن الروائيون سمير عبد الفتاح وعلي المقري ووجدي الأهدل ونادية الكوكباني تأسيس عصبة روائية تدعى "نلتقي أمساً"، ونقرأ في بيانها: "نبحث عن الجديد في السرد ونبتكره".
نشطت هذه العصبة عبر تنظيمها فعاليات، لكن الباحث عنها الآن سيجدها في حالة جمود. يطمئننا عبد الفتاح بأنها مستمرة: "أربعتنا ننتمي إلى مدارس مختلفة، جمعنا إحساسنا بأننا نستطيع معاً تقديم شيء جيد لنا وللآخرين. كنا صاخبين في البداية، وعقدنا لقاءات وفعاليات. وكنا ننوي الاستمرار في ذلك، لكننا لم نستطع تدبير موارد مالية ومقر. إلا أننا ما زلنا نحلم ونفكّر دوماً كيف يمكننا أن نطوّر أنفسنا روائياً ونُحدث نهضة في الرواية اليمنية وننقل ثقافة الرواية إلى المجتمع".