الخميس، أكتوبر 01، 2015



يُعد الشاعر اليمني محمد المسَّاح (1948) أحد شعراء «الموجة الأولى» من روَّاد قصيدة النثر اليمنية من الجيل السبعيني في القرن الـ20، ومن القلائل الذين أبقوا على تفاعلهم مع الكتابة والحياة بروح فلاّحٍ بسيط يعرف في أي أرض يلقي بذوره.
فهو يواصل حتى الآن كتابة عموده الصحافي اليومي «لحظة يا زمن» في أخيرة صحيفة الثورة، وهي لحظة خارجة عن زمننا المُعتاد، تفصل قراءها عن بؤس الأخبار الرسمية ودوار السياسة، ومساحة موازية تكفي لاقتنائها وحدها ولحفز الجوانب الجمالية.
في يومياته تلك يلتقط الشاعر صوراً مكثفة، وبزوايا جديدة وغير مألوفة لحركة الأشياء وثباتها في بيئته، ويقدم مختارات من قراءاته لكتَّاب ومُفكرين وشعراء لا تقل أهمية عن كتاباته الخاصة وهي تتنزه في عقول مفكرين وأدباء من العالم، لتكشف سعة اطلاع الشاعر واستثنائية المثقف: «كان لدي أعمدة صحافية مختلفة، أولها بعنوان: «لقطة من الزاوية» وآخر «لقطة من عين الكاميرا»، استمرا على التوالي أربع سنوات، وبعدها بدأت بكتابة عمود «لحظة يا زمن» عام 1976، كنت أواظب على كتابته ثلاثة أيام في الأسبوع، ثم تحولت إلى كتابته يومياً، وقليلاً ما توقفت بسبب أوضاع سياسية معينة، أو لأسباب شخصية أشعر فيها بأنني استنزفت في الكتابة، وهي فترات قصيرة جداً». في نصه المفتوح يتكئ المسَّاح على لغة شاعرة وتقنيات كتابية متداخلة تتناول الأشياء بأسلوب أدبي مُفكر يصعب تصنيفه: «أعطيتُ اللحظة طابعاً خاصاً ما بين النثر واللغة المباشرة أحياناً، إذ هي بالنسبة لي عبارة عن لقطة ألتقطها وأنا عابر ثم أقوم بتشكيلها وكتابتها بطريقتي، ومضة أو أقصوصة صغيرة جداً، والمُختارات هي ثمرة قراءاتي في الكتب واطلاعي، وأختار منها ما يعبر عن الواقع».
بدأت علاقة المسَّاح بالكتابة والشعر في السبعينات، إذ حصل على منحة دراسية 1970 في جمهورية مصر العربية ضمن أول دفعة للثانوية العامة، لدراسة الصحافة في جامعة القاهرة، وهناك تفتح وعيه على الأدب والمسرح والسينما، وكانت مصر في أوج نشاطها الثقافي الذي أثرى الوطن العربي، وتابع عن قُرب شعراء وروائيين، كجمال الغيطاني وبهاء طاهر وعبدالمعطي حجازي وعبدالحكيم طاهر وأمل دنقل. «بدأت كتابة القصيدة النثرية مباشرة من دون المرور على أشكال ما قبل النثر، واحتفى النقاد، أنصار الجديد والغريب على بيئة تقليدية، بما نكتبه - قصيدة نثر - أنا ومجموعة من الشعراء، منهم عبدالرحمن فخري وعبدالودود سيف وعبدالله قاضي وغيرهم، ونشرتُ أولى قصائدي في مجلة «الكلمة» التي كانت تصدر في مدينة الحديدة، ويترأس تحريرها محمد عبدالجبار سلام عميد كلية الإعلام حينها».
في حديثه يركز المسَّاح على ذكر أسماء جميع من يعتقد أنهم أدوا دوراً في خدمة الأدب والثقافة، ولم يأخذوا حقهم من الاهتمام «المؤسف أن الأجيال الأخيرة من كتَّاب النثر يسهمون في تجاهل من قبلهم، فلا يقرؤونهم، وهذه مسألة تطرح عليهم بوصفهم جيلاً أصبح يعتمد على نفسه أكثر وفي حال قطيعة مع الكتابة والتواصل مع الرواد. بعضهم يزعم أنهم جيل بلا آباء، كأنهم نزلوا من السماء؛ نوع من الغرور الفارغ، الذي سيكون مصيره النسيان أيضاً». وفي شأن تطور قصيدة النثر اليمنية، يرى المسّاح أن الحدث السياسي في العقود الثلاثة الأخيرة طغى على كل شيء، بما فيها قصيدة النثر، وأصبحت الأحكام غير قطعية في شأن تطورها، إضافة إلى أن تداخل الوسائل العصرية والحديثة حد من التفاعل والانفعال، وهذا التراجع شمل الثقافة وأدواتها عموماً». كانت علاقة الشاعر بالسياسية متذبذبة وتأتي في مرتبة ثانية بعد الأدب، وانتهت بأن أصبح ارتباطه باليسار معنوياً، بعد أن انتمى في البداية إلى الحزب الديموقراطي الثوري الذي كان مقره الجنوب، والذي سيتوحد لاحقاً ومنظمات أخرى ليصبح الحزب الاشتراكي اليمني بشكل اليوم، وفي ظل الصراع السياسي بين الجنوب المتحزِّب والشمال الذي يجرِّم الحزبية تعرَّض لتجربة السجن 1973 ستة أشهر في «القلعة» بصنعاء، كان ذلك بعد عودته من مدينة عدن، وقبلها إزاحته السريعة من منصب رئيس تحرير صحيفة الثورة الرسمية، بسبب مقالاته الناقدة ورفضه التدخل في السياسات التحريرية. إلى أن عاد تدريجياً للعمل عضواً في هيئة التحرير ومشاركاً في تحرير صفحاتها الثقافية، ثم كاتباً يقتسم مع صحيفته تاريخها.
وعلى رغم غزارة إنتاج الشاعر، فإن أعماله خارج أغلفة الكتب وفي حاجة إلى جمع، وهو أمر يعتقد أن عليه تركه للزمن: «في كثير من الأحيان أحدث نفسي بأنَّه ليس ضرورياً أن يكون لي كتاب، لكني فكرت في جمعها، وخصوصاً أنَّه لا مبادرات من جانب المؤسسات الأدبية، والنشر يعتمد على الجهد الفردي للشاعر».
حالياً، يواصل المسّاح عادته في التنقل بين الريف بلده التربة محافظة تعز التي يعيش فيها، والمدينة صنعاء التي عمل بها، ليقطع مئات الكيلومترات، جيئة وذهاباً، بقلب لا يُحب المُدن: «ليست العلاقة رومانسية بقدر ما هي نوع من البحث عن الملاذ، الريف فيه بساطة. مع العولمة توحشت المدن فدمرت القيم الإنسانية، كالصداقة والأخوة وأشكال الترابط المجتمعي، وتحديداً مدن البلدان المتخلفة التي لم تبن بشكل طبيعي بل على شكل قفزات، ولهذا تجدها تعكس واقع التخلف نفسه، وتصبح الحياة فيها صعبة لا تمنحنا حرية التأمل كما يمنحه الأفق الرحب للقرية. المدن قطَّعت علاقتنا بالطبيعة، لم نعد ننظر إلى القمر والنجوم، في القرية تعيد علاقتك بالطبيعة وتوجد حواراً مع الأشياء».


حمَّال أرواح
 يبدو أن صاحبي لا يغطس في الزمن.. الزمن حبيبات رمل تطير مع الريح، وماء ينسكب من طرف البركة.. ويذهب في مجراه.. غير آبه.. إذا كان هناك سابح بالفعل، ويستعرض مهاراته السباحية. الزمن حمال أرواح.. دائماً وأبداً ما نسمع أغانيه الشجية التي تذيب القلب، ونحن نودع أولئك الذين حملهم الزمن فوق أكتافه. ورحلوا معه.. وغابوا في آخر الطريق.. يظل الزمن عموداً للشمس التي لا تغيب في حدقة العين..
إلاّ حين تغيب الحدقة وقد أحرقتها الشمس.. ذهب النظر وظلت الشمس هناك في الأعالي العظيمة.. في الزمن عظمة أنه لا يتدخل ولا يلمس أبداً.. مسائل الإنسان من قصص الاختلاف أو التغاير.. أو العراك الفارغ وإن مثل الزمن.. فقد مثل الروح.. لكنهما الاستحالتان اللتان لا يهضمها عقل الإنسان حتى وقد وصل منتهاه وهو يستنسخ ذاته. يظل الزمن إمبراطوراً لا يلمس ولا يرى.. شاهداً لا يراه الإنسان وهو لا يلمس ولا يتكلم يظل هناك في غيهب المكان في دوران الحركة لا أحد من كبار الأذكياء أو من عظماء الفاهمين قد شاهد الزمن أو استصحبه أو خالـله.. الزمن غور الطبيعة.. التي لم يرها الإنسان إلاّ في الثانية الوحيدة.. قبل الموت.

الذي لا يأتي
 هي النفس كلما عنَّ لها الوجد، تتحامل مع ذاتها لترى العالم من نافذة الروح. تصفعها الريح الباردة.. وتقذفها إلى الداخل من جديد.. وتصطفق النافذة، وتعود النفس لتنطوي على ذاتها تقتات من بعضها، وليس في الخارج سوى الطبيعة وحدها تجالد الريح والصقيع تظل الأشجار وحدها لا تخلف المواعيد.. تتفتح أزهار البرقوق وينبثق ذلك البياض يزهو يقاتل الصقيع لا تخيفه الريح السافعة.. ولا يصغي لعوائها الدائر حول الغصون .. هي الريح الباردة والجافة تجري في الدروب والطرقات، وكلما عوت وعلا صريرها ينطوي الناس وينكمشون في زواياهم يغلقون الأبواب والنوافذ، يتسلى البعض منهم، حيث يتحلقون ويحدقون في شاشات ملونة يتابعون حكاياتٍ.. أرقاماً معارك.. حروباً.. وأدخنة قنابل والبعض يتابع أرقاماً تتوالى تصعد وتهبط في بورصات تتوزع في أركان العالم.. سوى الريح.. تعوى في الدروب والطرقات.
ويظل المشردون واللاجئون والمهمشون يسيرون ويتباطؤون.. البعض منهم يغرق في البحور والبعض الآخر يدفنون في الأعماق.. سوى الريح الباردة الجافة.. ما عدا الطبيعة بأشجارها.. لا تخلف مواعيد الفصول.. وتذهب النفس شتى الأرجاء تبحث عن ملاذ للروح.. فلا تجد غير العودة إلى ذاتها.. حيث لا ملاذ غير الانطواء وانتظار الذي لا يأتي!

نشر في صحيفة الحياة

الأحد، أغسطس 09، 2015

صدور مجموعتي الشعرية الثانية




هناك، على الطاولة نسخ من ديواني الثاني "شجر لا ظل له" صدر حديثا في القاهر عن دار أروقة للنشر والترجمة.
جاء في غلافه الأخير ما كتبه الشاعر والناقد وعضو لجنة تحكيم مسابقة اثير الشعرية حسن المطروشي: (في قصائد مجموعة "شجر لا ظل له" تتماهى كل عناصر الوجود واحداثه وأصواته ليستدرجها جميعا في نص مشع بالغ الدهشة منفتح على عوالم لا متناهية تعبرها اطياف الحبيبة والوطن والاحلام والانكسارات البليغة. تعكس قصائد المجموعة التي توزعت بين الشكلين التفعيلة والنثر تجربة شعرية جديرة بالتوقف والتأمل يبرز خلالها صوت شعري نقي وحزين.)


مركز التوزيع في القاهرة: مكتبة ليلى - وسط البلد


الخميس، مارس 19، 2015

نبيل عُبادي: النشر في يمن غير سعيد



يقف الناشر اليمني نبيل عُبادي على بوابة "غاليري صنعاء" لاستقبال زوَّار "معرض عبادي للكتاب" (12 ـ 30 آذار/ مارس) الذي يهدف تنظيمه هذه المرة إلى استثمار عائدات المبيعات من أجل تأسيس جائزة سنوية للكتاب، ما يجعله يبدو كمعرض أخير لأشهر ناشر يمني قبل اعتزاله.
ينفي عُبادي ذلك، في حديثه إلى "العربي الجديد"، ويسمِّي ما يقوم به "إعادة ترتيب" لمكتبة افتتحها جده الأول عبادي حسن محمد علوي في مدينة عدن عام 1890، وكانت مركز توزيع للكتاب العربي في اليمن، توارثها بعده جيلان، إلى أن أسّس عبادي، بعد أن أنهى دراسته لعلوم البيئة في ألمانيا، "دار عبادي للدراسات والنشر"، عام 1990، كامتداد للمكتبة التي أصبح مقرّها صنعاء، عاصمة الوحدة اليمنية.
يضيف عبادي إلى دوافعه من تنظيم المعرض واستثمار عائداته، حرصه على استمرار نشاط الدار في خدمة الكتاب اليمني: "لم يرزقني الله أبناء، وبالتالي ربما أكون آخر جيل في عائلة عبادي، ولا أريد لرسالتنا أن تتوقف".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المكتبة كانت جسراً بين ما تنتجه العواصم العربية من كُتب وبين اليمن. وفي سنوات تحوّلها داراً للنشر، عملت كحلقة وصل بين القارئ اليمني تحديداً وأجيال أدبية مُختلفة صدَرت مؤلفاتهم عن الدار، نذكر منهم الروائيين وجدي الأهدل وسمير عبد الفتاح ومحمد مثنى، والشعراء محمد الشيباني ومحمد عبد الباري الفتيح وشوقي شفيق وطه الجند ومحمد حسين هيثم وأحمد العرامي، وغيرهم من الأدباء الذين صدرت أعمالهم، كما يشير عبادي بفخر، "ضمن سلسلة إبداعات يمنية التي استمرت أربعة عشر عاماً وتضمّنت 479 عنواناً".
ولعل أبرز تلك العناوين التي أثارت جدلاً ومشكلات رواية "قوارب جبلية" التي اتُّهم مؤلفها، الكاتب وجدي الأهدل، بالإساءة للذات الإلهية، ما تسبّب في نفيه خارج وطنه، فيما أغلقت الدار فترة قصيرة ثم أعيد فتحها بموجب حكم قضائي. وكادت الحادثة أن تقضي على حُلم عبادي في الحفاظ على إرثه المُرتبط بصناعة الكتاب، لكنه ما لبث أن تجاوز هذه الأزمة ومعها الصعوبات التي يواجهها في مجتمع تتدنى مستويات القراءة فيه، وتضعف حركة التوزيع والنشر وصناعة الكتاب بشكل عام.
وتنعكس معاناة النشر لدى عبادي ومخاوفه من توقف ارتباطه بالكتاب اليمني، في مشروع الجائزة نفسها والهدف منها، إذ ستُمنح سنوياً للكتاب المتميز الصادر في عام الجائزة، على أساس معايير التأثير في الحراك الثقافي في المجتمع، إضافة إلى طموح المشروع في تقديم جوائز فرعية تذهب لدور النشر وعناصر صناعة الكتاب في مراحل مختلفة حتى صدوره. وسيشرف على الجائزة مجلس أمناء يرأسه عُبادي حتى وفاته، ليختار هذا المجلس والورثة من بعده مَن يديرها بآلية يوصي بها المؤسس.

السبت، مارس 07، 2015

المسرح اليمني.. مائة عام من الانتظار



رغم أنه أكمل، هذا العام، ما يربو على قرنٍ منذ ولادته، إلا أن المتلمّس لأحوال المسرح اليمني لا يجد أن سيرته تنعكس إيجاباً على حاضره وتدل على عراقة استَهلت عروضها الجادة بمسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير في مدينة عدن عشريّات القرن الماضي. 

المحاولات الفارقة في عمر المسرح اليمني قليلة، وجاءت على يد روَّاد مثل عبد الله المسيبلي، ومحمود أربد، وأحمد الريدي، وفيصل بحصو، وفريد الظاهري، ونرجس عباد، وصفوت الغشم، ونبيل حزام. وهي محاولات متباعدة ومنفصلة عن تاريخها، مُعتمدة على تجارب خاصة توثقت صلتها بالمسرح العربي نتيجة السفر والدراسة أكثر من امتدادها المحلي.
فمنذ الأعوام التي أعقبت البدايات وصولاً إلى الستينيات وما بعدها، شهد النشاط المسرحي في البلد حركة ارتبط توهجها وخفوتها بالمزاج السياسي واهتمامه من عدمه. ولم ينج المسرح من توظيف السياسة له، وهو حال يعيد نفسه اليوم وبصورة أضعف.
يعزو الكاتب هائل المذابي في حديث مع "العربي الجديد" عملية إجهاض التنوير في المسرح اليمني إلى "عدم وجود عمران مسرحي خاص به". ويشرح: "تم تغييب هذا العمران في اليمن في مرحلة من المراحل لأسباب سياسية، تحديداً في الجنوب. ولا أعتقد أن المراكز الثقافية في المحافظات قد أغنت ونابت عن وجود عمران مسرحي خاص بالمسرح. فالمدة التي تسمح بها تلك المراكز للمسرحيين للاشتغال على عروضهم هي يومان فقط قبل تقديم العرض. يضاف إلى ذلك غياب الفنان والكاتب والمخرج. نحن إزاء القليل من الاشتغال الذي لا يقاس عليه أو يحكم به".
في السنوات الأخيرة، ظهر تعاون بين مراكز ثقافية أجنبية وفرق مسرحية محلية، غير أنها باتت في حكم المتوقفة اليوم، مع الأوضاع الراهنة. نذكر من هذه التجارب مسرحيتي "مريض الوهم" لموليير (2010) لـ"فرقة موليير"، والتي أنتجتها وزارة الثقافة اليمنية بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بصنعاء، ومسرحية "معاك نازل" لفرقة خليج عدن (2010 - 2012) التي أنتجت بالتعاون مع "البيت الألماني"، وهي مقتبسة عن مسرحية "الخط رقم واحد" الألمانية. ما تبقى الآن من هذه الظاهرة هو تبني منظمات محلية وأجنبية التعاون مع فرق شابة لتقديم عروض مسرح تفاعلي في المحافظات. ويرفض المذابي أن يكون لذلك "علاقة بفن المسرح وجوهره".
إذ يعتبر أن استخدام المسرح يقتصر كونه "وسيلة للتوعية فقط، فيكون للموضوع التعليمي طغيان على اعتبارات فنية أخرى". مدربة المسرح، والشاعرة أيضاً، ميسون الإرياني، لها رأي مختلف، إذ ترى أن استعانة المنظمات بالمسرح لا ينفي أنه فن قائم بذاته. "العروض خير دليل على أنه يأخذ أبعاداً فنية في عناصره، ويمكن البلوغ به أعلى مراتب الفن إن توفرت الإمكانيات اللازمة". وحول عملها في التدريب تضيف: "نحرص على إخراج ممثلين محترفين لديهم قدرة على الارتجال والتواصل مع الجمهور بحيث لا تفقد المسرحية قيمتها وهدفها في إيصال رسائل ومناقشة قضايا شديدة الحساسية لدى المجتمع والسلطة".
وترى الإرياني أن وجود فرقة وطنية للمسرح قد يكون فكرة جيدة لإنعاش الخشبة اليمنية، وهو ما سبق أن عرضته على وزارة الثقافة، غير أن الرد، كمان تقول، كان مخيباً بحجة عدم وجود الميزانية. "المشكلة ليست في الميزانية"، تقول، "بل في انعدام الوعي".
بلغ المسرح اليمني من العمر أكثر من 100 عام، إذاً، غير أنه ما يزال في انتظار التحول إلى حاضن دائم لتجارب جادة وفارقة تكون هي القاعدة، لا الاستثناء.


الأحد، مارس 01، 2015

فؤاد الشرجبي: الغناء في زمن المليشيات


يحاول المؤلف والموزّع الموسيقي فؤاد الشرجبي (1975) ملء الفراغ الذي يتركه غياب مشاريع تعنى بالموسيقى اليمنية وتراثها. ففي عام 2008، أسس "البيت اليمني للموسيقى"، ومن إنجازات هذا المشروع، توثيقه لعدد كبير من الأغنيات التراثية جمعها فريق ميداني من مدن اليمن وأريافه عبر شفاه أصحابها وحافظيها.
يوضّح الشرجبي في حديث مع "العربي الجديد": "كان همُّنا توثيق التراث بقاعدة بيانات حفاظاً على حقوق الملكية والحقوق المجاورة لحقوق المؤلف. تراثنا مشاع يُغنّى ونادراً ما يُنسب إلى جذوره. وعلى المستوى المحلي، يقوم فنانون يمنيون بسرقة الألحان وغنائها من دون حفظ الحقوق بسبب عدم وجود قانون يمنع التعدّي. ولأن مجتمعنا يعاني ضعفاً في الثقافة موسيقية؛ حرصنا على إقامة دورات في العزف استفاد منها مدرّسو المدارس التي ما زالت مادة الموسيقى جزءاً من مناهجها، وكل من يرغب بدراسة الموسيقى بشكل علمي".
الفاصل القصير الذي أبعد الشرجبي عن شغفه الموسيقي الباكر، هو انتقاله من مدينته تعز إلى صنعاء لدراسة الحقوق في جامعتها. لكنه لن يلبث، بعد ذلك، أن يسافر إلى دمشق للدراسة في "المعهد العالي للموسيقى". وفور تخرّجه، أسس عام 2000 أول أستوديو رقمي في اليمن:
"عدتُ لأجد ظواهر من الإنتاج التجاري تقف خلفه فنانات يلبسن النقاب. كان الأمر بالنسبة إليّ بمثابة تحدّ، فسجَّلت عدداً من الأعمال الفنية المميزة. وفي لحظة معيّنة، هجمت علينا شركات الإنتاج الفنية لتسجيل أعمال تجارية، وقادتني الحاجة إلى الرضوخ لما رفضته في البداية، لكني تداركت ذلك وقررت إغلاق الأستوديو، وعلى أنقاضه أسّست البيت اليمني للموسيقى".
ارتبطت بدايات الشرجبي ببعض الأعمال الفنية المُهمة قياساً بزمن إنتاجها، فهو مُلحن أغنية مسلسل شعبي شهير في اليمن ("دحباش"، 1990) التي يراها "تجربة متواضعة كحال المُسلسل"، ويحمِّل السَّاسة مسؤولية استغلال المسلسل وتشويه الفن: "رغم شعبية المسلسل في الجنوب حينها، إلا أن هناك من وجَّهه سياسياً ليثير الفرقة بين شعب واحد هو ضحية للتسلط السياسي".
في رصيد الشرجبي أعمال في الموسيقى التصويرية لمئات المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، أبرزها المسلسل الإذاعي "إلا الحب"، ومسلسل "حكايات وأساطير"، ومئات الأغاني للأطفال. وفي هذين النوعين، يتركّز عمله على تلحين بعض الأغاني وإعادة توزيع القديمة منها بأصوات فنانين جدد، ضمن واقع يعيد غناء الماضي ولم يعد ينتج سوى اليسير من الجديد.
ويعزو الشرجبي ما يسمّيه التخلف الموسيقي إلى "حقبة مشوّشة عبثت فيها الصراعات السياسية باستقرارنا، وقلما تزدهر الفنون في أوضاع مضطربة لبلد ليس فيه معهد واحد للموسيقى، وشركات الإنتاج مشلولة وفنانوه هاجروا إلى بلدان أخرى بحثاً عن لقمة العيش".
ولا ينسى الشرجبي أن يسجِّل موقفاً ضدّ موجات تحريم الغناء، كالتي ظهرت مع اجتياح الميليشيا المُدن اليمنية ووصلت حدّ منع الفنانين من الغناء في المناسبات بالقوة: "نرفض هذا جملة وتفصيلاً بما فيه من تدمير للأفق المتبقي للناس، وتضييق على الفنون التي ينقص فضاؤها يومياً، ما يؤدّي إلى تجفيف أرواحنا".
رغم ما يعيشه الغناء اليمني من تراجُع غير مسبوق، يظلّ الأمل لدى الشرجبي قائماً، مع أن حلمه يُقابَل بالتجاهل كلما عرضه على الجهات الرسمية: "أحلم بإنشاء فرقة موسيقية وطنية، مبنية على أسس علمية، لتأهيل عدد من الشباب الموهوبين نستطيع الوصول بهم إلى المستوى العربي خلال فترة زمنية محددة. سيُحدث ذلك نقلة في الموسيقى اليمنية ويفتح المجال لتأسيس فرق أخرى تساهم في تطوير الفن اليمني. ولا ينفصل هذا عن ضرورة تأسيس معهد شامل لجميع الفنون بما فيها الغناء والموسيقى".

الاثنين، فبراير 16، 2015

آمنة النصيري.. كونُ حرُّ



مرّت أعوام منذ أن توقف غاليري "كوْن"، أو مرسم الفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري (1967). كان المكان ملجأً صغيراً للفنانين، يؤدي دوراً في دعم الثقافة البصرية وفي خلق حراك فني في صنعاء. أتت الاضطرابات السياسية وحوَّلت المدن الرئيسة إلى ساحة صراع مُسلّح، لتنحسر نشاطات الثقافة، ومن بينها المعارض التشكيلية.
لكن النصيري، من جهتها، عادت إلى "كونـ"ها الصغير لتواصل إنتاج أعمالها، وهي تتحيّن الفرصة لتقيم فيه نسخة ثانية من معرضها "17" بعدد أكبر من اللوحات، بعد أن كانت أقامته قبل أشهر في رواق "مؤسسة السعيد الثقافية" في مدينة تعز.
في معرضها الأخير، "أبيض"، قدّمت النصيري رداً أكثر تفاؤلاً يفصل بين لحظة وما قبلها. لحظة تحرّرت من "حصارات" الماضي (معرضها السابق، 2010)، تداوي من خلالها تداعياته المؤلمة وترتّق ثقوبه وتفتح صفحة جديدة متصالحة مع العالم.
لوحات المعرض الأربعون اتّسمت بتعدد الخامات والبناء الفني التعبيري، وهي تقترب من الكولاج، وتؤالف بين الحروفية والتصوير الفوتوغرافي لتصل إلى نص تصعب قراءته بمعزَل عن تفاصيل أجزائه. حول ذلك، تقول النصيري، لـ"العربي الجديد":
"بدأ مشروع لوحات مجموعة "أبيض" منذ ثلاث سنوات، بعد ثورة شباط/ فبراير2011. خشيت أن يقتصر اهتمامنا على التمحور حول الصراع السياسي. وكان همّي الشخصي الذي قدّمته عبر الفن، التركيز على الجانب المضيء لثورات كشفت ما لم نكن نتوقعه وأوجدت صراعات لا آخر لها".
يمكن القول إن أعمال "أبيض" تأتي على النقيض من لوحاتها في "حصارات"، حيث تصدمنا أعمال الأخير المفاهيمية بقسوتها. صوّرت النصيري، من خلال هذه الـ"حصارات"، المعاناة الإنسانية اللامرئية، وكشفتها على مجال مرئي مغروز كمُدى حادة في كيان حسّي أنثوي محجوب ومقموع وعاجز عن الخروج من سجنه.
تقول النصيري: "قد يكون الفنان أكثر تأثراً من أي شخص بما يجرى حوله، وربما يكون تأثره كأي شخص آخر، لكن لديه العمل الفني الذي يمكن أن يعكس من خلاله حريته في التعبير شكلاً ومضموناً. ولهذا قد ينجز تجربة صادمة تثير الكثير من الأسئلة وربما تطرح الأجوبة أو شكلاً منها، وهو أمر مشروع بل وضروري حتى لا يقتصر دور الفنان على إرضاء المشاهد".
تحضر المرأة في لوحات النصيري بوضعها الهامشي والضيّق الذي تعيشه في الواقع العربي ككل، لكن هذا لا يعني أن التشكيلية من أنصار الفكر النسوي أو أنها تتبنّاه في أعمالها الفنية وتعبّر عنه. عن ذلك، توضح: "لست نسوية. أنا مؤمنة أن تطوّر المجتمعات تطوّر واحد وفي الإطار نفسه، وحركة المرأة لا تكون في سياق تاريخي منفصل، وأنا أطرح المرأة كرمز للإنسان وليس للأنثى. لا أقصد المرأة في القمع بل الإنسان، وهي رمز جمالي وفني أكثر شمولية".
تتميّز تجربة الفنانة النصيري في جيلها الثمانيني الذي لم يستجب لكوابح الواقع، وذلك من خلال تواصلها مع المدارس الحديثة في العالم من دون قطيعة مع مجتمعها. وأتاحت لها إقامتها عشرات المعارض الفنية، في عدد من الدول العربية والأجنبية، الاطّلاع المباشر على تجارب متنوّعة تدخّلت في هويتها التشكيلية. ترى النصيري أن "الفنان شخص ينتمي إلى الثقافة الكونية، وكل منجز يحمل خصوصيته وملامح من بيئته، لكن التقييم يعتمد في المحصّلة على مدى جدّة العمل وارتهانه لشروط الإبداع والأصالة بمعناها المرتبط بالتفرّد، وهنا يصبح الانتماء الجغرافي غير ذي أهمية".
وفي حين تحاول الفنانة الخروج إلى مجتمع ثقافي أرحب وتؤمن بلا حدود الهوية التشكيلية، ترى أن علاقة الفن بالمجتمع الأصل شائكة ومُبهمة، وتعزو ذلك إلى منظومة الثقافة التقليدية التي لا مكان فيها للفنون المعاصرة:
"الانفتاح على الإنجازات الفنية الجديدة لن يصل إلى الناس إلا عبر إعلام يحايث المتغيّر في العالم ويتجاوز المحلّي ليخلق وعياً جديداً. تُضاف إلى ذلك طبيعة المؤسسة التعليمية التي يلزمها تطوير مناهجها والتركيز على الإبداع والابتكار وكذلك الفنون. نحن بحاجة إلى خلق وعي يستوعب المحامل التشكيلية السائدة، وهذا يتطلب مرور الوقت والزمن الكافي، إضافة الى وجود حركة فنية ثقافية جادّة ونشطة. من دون ذلك سيبقى الفن في قطيعة مع المتلقي".
إلى جانب كونها فنانة تشكيلية، تدرِّس النصيري مادة فلسفة الجمال في كلية الآداب في "جامعة صنعاء"، وتسعى صاحبة كتاب "مقامات اللون"، إلى رعاية التجارب الشابة من خلال تقديم تحليل لأعمالها.
وعن قراءتها للمشهد الفني اليمني، تقول: "لا أستطيع القول إنه في أفضل حالاته، فالوضع السياسي يطغى على كل شيء. ومع هذا، هناك دائماً فنانون جدد وتجارب شابة رغم هشاشة الوضع الاقتصادي والثقافي. نشاط هؤلاء نابع من مقاومة ذاتية، لكنه ضعيف، ويتركّز في الاتجاهات الواقعية لأنهم يضعون نصب أعينهم المردود المادي نظراً إلى الضغوط الاقتصادية التي تحكم إنتاج الفنان التشكيلي".

السبت، يناير 24، 2015

سمير عبد الفتاح: لا أواجه أحدا


في أواخر العام الماضي، تلقّى الروائي اليمني سمير عبد الفتاح (1971) نبأ وفاته الذي تناقلته مواقع إلكترونية عربية التبست عليها حياة وسيرة وصورة الكاتب المنشغل بإنجاز حكايته الخاصة، وموت كاتب مصري يحمل الاسم ذاته.
لم يُذهل "جامع الحكايات" بالموت، وهو ضيف قديم حلّ في عمله الأول "رواية السيد م" (2007) كثيمة رئيسة. فميم العنوان هو نفسه "الموت" بهيبته ورعبه وحركته الخفية. لكن ربما تصلح الشائعة كتفسير للرواية.
"الحياة ليست رواية واحدة، الموت ليس رواية واحدة"، يقول سمير عبد الفتاح لـ "العربي الجديد". ويضيف: "الموت قائم على تفاهمات يرى فيها أشخاص أنه باب لحياة أخرى، أو خلاصٌ من كل ما عانيناه في حياتنا، أو مجرّد فناء. توجد تفسيرات كثيرة للموت بمقدار ما أرهقتنا به الحياة. فقط ما ولدنا به، البكاء، يبقى الشيء الأساسي الذي يجمعنا بفكرة الموت".
ويتابع عبد الفتاح: "لذا، أي موت لا يرتبط بالبكاء والحزن يكون خارج السياق. وفي هذا الإطار كان موت الكاتب المصري سمير عبد الفتاح وإعلان وفاتي أنا نوعاً من هذه التفاهمات. وللحظة بدا الأمر حقيقياً وقابلاً للتصديق، لكن البكاء ارتفع من مكان آخر وانسحب الموت إلى الجهة الأخرى، مؤجّلاً بُكائي إلى وقت آخر".
بعد روايته الأولى، نشر عبد الفتاح ثلاث روايات، هي "ابن النسر" (ترجمت إلى الفرنسية)، "نصف مفقود" (فازت بـ"جائزة دبي للرواية" عام 2009)، "تماس - حياة أخرى". وقبل ذلك، نشر أربع مسرحيات في كتاب واحد، وثلاث مجموعات قصصية، هي "رنين المطر"، "رجل القش.. لعبة الذاكرة"، "راء البحر".
في ظلّ مُتعة الكتابة التي يعيشها، يذهب بعيداً في التلصص على موجودات لا يفقه البشر لغتها، ندخل معها في لذة حكي الهامش. تنفتح التفاصيل الصغيرة على عوالم أوسع من تصوّرنا لها ذهنياً، وتتضاءل مادة الأشياء أمام روحها المُبتكرة، في رحلة قد تبدو هروباً من الواقع بواسطة الخيال:
"لم أستطع حتى الآن وضع مقياس لتحديد ما الهامش وما المتن، ما الواقعي وما الخيالي، ما الهروب وما المواجهة. الأمر نسبي. وأنا على ثقة بأنني لا أواجه أحداً، أو أنني في معركة لدي فيها خيارات النصر أو الهزيمة؛ المواجهة أو الهروب. أكتب ما أشعر أنه يتماهى معي ومع الآخرين. قد يُنظر إليه بوصفه هامشياً، لكنه في أساسه متنٌ، والعكس".
المفهوم النسبي للسرد في أعمال عبد الفتاح يضعها في خانة تجريب ليس من أولوياته القوالب التقليدية، بينما يبدو أسلوبه كسيرة جوهرية محمّلة برؤى فلسفية صارمة. إنها مجازفة تحسب للكاتب في واقع روائي ما يزال طور تشكّله وبحثه عن قارئ؛ لكنه يعتبرها خياراً مغايراً نتج عن قراءاته القليلة للرواية اليمنية وثيماتها الأساسية، وعن إيمانه بأن على الكاتب أن يكون له مفهومه الخاص ليضيف شيئاً على ما أخذه من الآخرين. كما يرى عبد الفتاح أن "الفلسفة جزء من الحياة، جوهرها الوصول إلى العمق. عندما أكتب أدور في هذه المنطقة غير المطروقة لسدّ الفجوة التي تزيح ما نكتب جانباً".
يجيد عبد الفتاح تقديم نفسه للقارئ بما هو متاح لديه، فأعماله التي طُبعت على حسابه تجاوزت محلّيتها إلى العربية حيث فازت بجوائز، كما صدرت روايته "ابن النسر" في طبعة ثانية عن "هيئة قصور الثقافة المصرية"، وترجمت أعماله القصصية إلى الإيطالية ضمن مشروع "بيرل ديلو".
وهذا يقودنا إلى سؤال عن القارئ الذي يضعه نصب عينيه أثناء فعل الكتابة: "حين أكتب أنسى ما يحيط بي، وتكون المنافسة بين أفكاري والأوراق، أيُّهما سيصمد أكثر. لحظة الكتابة لا تسمح لأحد بمشاركتها عقل الكاتب. في مرحلة المراجعة النهائية، تظهر بعض الأفكار، مثلاً إن كان العمل سيقدَّم إلى مسابقة أدبية أو إلى دار نشر، أضيف إليه ما يجعله متّسقاً لقبوله. يخضع بعض الكتّاب لعدد من الضغوط، مثل درجة تقبُّل القارئ للنص، أو هدف إيصال رسائل ما، وبالتالي يحرصون على تجنيب أعمالهم ما يثير. حتى الآن، لا تحاصرني مثل هذه الضغوط. أكتب، وأكتب فقط".
في عام 2009، أعلن الروائيون سمير عبد الفتاح وعلي المقري ووجدي الأهدل ونادية الكوكباني تأسيس عصبة روائية تدعى "نلتقي أمساً"، ونقرأ في بيانها: "نبحث عن الجديد في السرد ونبتكره".
نشطت هذه العصبة عبر تنظيمها فعاليات، لكن الباحث عنها الآن سيجدها في حالة جمود. يطمئننا عبد الفتاح بأنها مستمرة: "أربعتنا ننتمي إلى مدارس مختلفة، جمعنا إحساسنا بأننا نستطيع معاً تقديم شيء جيد لنا وللآخرين. كنا صاخبين في البداية، وعقدنا لقاءات وفعاليات. وكنا ننوي الاستمرار في ذلك، لكننا لم نستطع تدبير موارد مالية ومقر. إلا أننا ما زلنا نحلم ونفكّر دوماً كيف يمكننا أن نطوّر أنفسنا روائياً ونُحدث نهضة في الرواية اليمنية وننقل ثقافة الرواية إلى المجتمع".

الأربعاء، يناير 14، 2015

وجدي الأهدل.. سردُ بتوقيت اليمن


رغم الازدهار الملحوظ في الكتابة الروائية في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، وتنوّع الأسماء والإصدارات الجديدة، إلا أن وجدي الأهدل ما زال محتفظاً بمكانه في المقدمة، أو بين الذين في المقدمة.
الكاتب اليمني (1973)، الذي بدأ تجربته الأدبية قبل نحو عقدين، تحتل أعماله مكانة لافتة بين أبناء جيله، وحتى الأجيال السابقة، من الروائيين اليمنيين الذين يشكلون حلقة السرد في البلد الذي ما فتئ يوصف بالسعيد، رغم شقائه. ذلك أن أعماله على تماس مع المجتمع، ولا تنفك عن إعمال أدواته في تشريح قضاياه. هذه القرب من بلده/ مسرح أحداثه، الذي ظهر بدءاً من روايته "قوارب جبليّة" (2002)، اضطر الكاتب اليمني إلى مغادرة البلد.
كانت "قوارب جبلية" رواية جريئة، ومفاجأةً في الأدب اليمني والعربي، لما قدمته من تأمُّل في شخصيات عنيفة ومعنّفة تفضح التابوهات الثلاثة، الديني والسياسي والاجتماعي، وتشرّحها. ومع نشرها، اتُهم الأهدل بإساءته إلى الذات الإلهية واجتمعت في إدانته سلطات التابوهات الثلاثة، ما اضطره إلى السفر إلى لبنان هارباً ومنفياً.
لم يطُلْ منفى الأهدل في لبنان. وربما يكون للحظ دور كبير في إعادته إلى بلاده. فقد تزامنت حكايته مع الزيارة اليتيمة للروائي الألماني غونتر غراس إلى اليمن في العام نفسه. وكان صاحب "نوبل" (1999)، قد أعلن رفضه تسلّم وسام استحقاق تقدم به الرئيس السابق علي عبد الله صالح، حينها، إن لم تحل مسألة الأهدل. لم يتوقع أحد من المثقفين العرب الحاضرين أن يقوم غراس بهذه المبادرة. هكذا، وجد صالح نفسه محرجاً ومضطراً إلى أن يعطي الأهدل الأمان والإذن بالعودة إلى وطنه استجابةً لطلب صاحب "طبل الصفيح".
عن هذه الحادثة والأثر الذي خلّفته الرواية لدى الكاتب، يقول الأهدل، في حديث مع "العربي الجديد": "أوّل ما تركت فيَّ الرواية من أثر هو إدراك القوة الهائلة للأدب. بمعنى أن المجتمع اليمني يبدو لامبالياً بالثقافة والآداب والفنون، أو كما أسمّيه، مجتمع نائم ثقافياً؛ فهو يحتاج أحياناً إلى أعمال فنية وأدبية توقظه من هذا السبات. بالطبع، تختلف ردود الأفعال. هناك مَن سيشكرك على إيقاظه من نومه لأن لديه موعداً مع المستقبل، وهناك من سيلعنك لأنه كسول وخامل وليس لديه شيء يفعله في الحاضر أو المستقبل".
بعد عودته السريعة وغير المتوقعة، أصدر الأهدل روايته الثانية "حمار بين الأغاني" (2004)، وحملت إهداء إلى غونتر غراس: "أشكرك أيها العزيز لأنك أنقذتني من ويلات المنفى وأعدتني إلى بلدي حراً طليقاً". يوافق الكاتب على أن عالم هذه الرواية السردي يتشابه مع "قوارب جبلية"، ويبدو كأنه تكملة لفراغاتها ومحاولة للانعتاق من صدمة تداعياتها. يوضح الأهدل: "أنا مدين لغونتر غراس بعودتي إلى وطني، وتالياً باستكمال مشروعي الكتابي. لقد جرّبت الإقامة في المنفى، ووجدت أن اقتلاع الإنسان من جذوره يترك تشوّهات في الروح لا يمكن ترميمها، كما أن المؤلف الروائي ـ وهذه وجهة نظر قد لا تنطبق على الغالبية ـ يحتاج إلى الاحتكاك اليومي بواقعه ليتمكن من الكتابة عنه".
تزوّدنا أعمال الأهدل بمعرفة عميقة بالمجتمع الذي كُتبت عنه، إذ تقدّم صورة للعلاقة القِيَمية بين البشر بطبقاتهم المتمايزة، وتكشف تلازم ثنائيات السياسي والمتديّن وما يربط بينهما من "رغبة السيطرة والاستحواذ على المُجتمع". إذ يعتقد صاحب "أرض بلا ياسمين" أن آباءنا وأجدادنا ومن كانوا قبلنا بمئات السنين "هم مسلمون أفضل منّا. لم يكونوا بحاجة إلى هذه الوصفة العصرية المسماة التديُّن. يسعى المتديّن في عصرنا إلى تمييز نفسه عن الآخرين لإظهار فضيلته وأفضليته على غيره. وهو في هذه الحالة يتشبّه بالسياسيين الذين يسعون إلى إظهار مزاياهم للعامة لأغراض معروفة".
يَرِد المكان في أعماله القصصية والروائية، التي تكتسب في معظمها طابعاً بوليسياً غرائبياً، كبطلٍ موازٍ لبطولة شخصياته الروائية التي يكون مصيرها عادة إما الهروب أو الاختفاء. يقف خلف هذين الخيارين خيط سردي يربط بين مكانين. أما زمن الأهدل فطويل، وتبدو فيه الساعة كما لو أنها توقفت أو على وشك أن تتوقّف.
ونستدلّ في التفاصيل التي يسردها بلغة مكثفة على صفحات قليلة مُحمّلة برمزية، ليست مُغرقة في غموضها، على رؤية لوظيفة السرد في كشف القيم الزائفة للمجتمع من دون مواربة: "مهمة الأدب تكمن في تهذيب الروح الإنسانية. إنه أهم أداة اخترعها الإنسان ليتطهّر من نوازعه الوحشية وردود فعله العنيفة. القارئ الشّغوف بالأدب لا يمكن أن يكون متعصباً أو متصلباً في آرائه، أو جامداً ومنغلقاً. كلما تقدّم أكثر في قراءة الأدب كلّما صار أكثر تسامحاً وانفتاحاً على الشعوب والحضارات الأخرى".
يمكن اعتبار الأهدل محظوظاً من ناحية ترجمة بعض قصصه ورواياته إلى الإسبانية والكورية والروسية، فترجمت "قوارب جبلية" إلى الفرنسية، و"حمار بين الأغاني" إلى الإيطالية، و"بلاد بلا سماء" إلى الإنجليزية.
وردّاً على سؤالنا حول ما إذا كان يضع في اعتباره الترجمة أثناء كتابة رواياته، يؤكد الأهدل أن "من يكتب لتُترجَم أعماله غبيّ. التقدير الحقيقي لأي كاتب يبدأ من مجتمعه، وعليه أن يضع في حسبانه فقط الأمة التي يكتب بلغتها. في ما يتعلق بأعمالي التي ترجمت، فإنني أراها غريبة عني، وأنها تنتسب للمترجم أكثر ممّا تنتسب إليّ. بمعنى أن الأسلوب لم يعد يخصني، وإنما يخص المترجم. وعمّا تحققه تلك الترجمات، ليس بإمكاني الجزم بشيء محدد: الأزمنة الثقافية ليست كلها بتوقيت غرينتش! نادراً ما يتمكن روائي من أن يتزامن مع عصره. والروائي الذي يفعل ذلك سوف تحقق كتبه مبيعات جيدة".
يعود الأهدل حالياً إلى عالم القصة القصيرة الذي انطلق منه. وكان قد أصدر أربع مجموعات قصصية، أوّلها "حرب لم يعلم بوقوعها أحد"، عام 2001، تبعتها ثلاثة أعمال أخرى. صدرت أخيراً طبعة جديدة من روايته "فيلسوف الكرنتينة"، التي افتتحت بها "دار كيكا" إصداراتها. كما أن روايته "بلاد بلا سماء"، بنسختها المترجمة، حصلت على جائزة "سيف غبّاش ـ بانيبال" عام 2012.

مترجمو اليمن على جانب الطريق

تضم المكتبة اليمنية منجزاً متناثراً من الكتب المترجمة، نقلها مترجمون يمنيون من اللغات الأخرى إلى العربية، بدءاً بترجمات عبد الله فاضل فارع، وأشهرها مجموعة "رجال بلا نساء" القصصية التي ترجمها للروائي الأميركي إيرنست همنجواي، ثم كتاباً آخر في أدب الرحلات للكاتب البريطاني تيم ماكنتوش سميث عنوانه "اليمن؛ رحلة المتيم المهووس في بلاد القاموس".
هناك أيضاً ترجمات قام بها مُهتمون لمؤلفين قضوا جزءاً من حياتهم في اليمن ضمَّنوها آراء حول المجتمع والصراع السياسي، مثل كتاب العالم توركيل هانسن "من صنعاء إلى كوبنهاجن"، بترجمة محمد أحمد الرعدي، وكتاب أريك ماكرو "اليمن والغرب 1917-1962" للمترجم حسين عبد الله العمري.

وعن مشقة الترجمة يبين أستاذ الترجمة في جامعة صنعاء عبد الوهاب المقالح "يُجالد في فعل يضيف لحياته معنى" كما عبَّر لـ "العربي الجديد"؛ أثمر نحو 25 كتاباً نقلها عن الإنجليزية في الشعر والرواية والفلسفة والدراسات؛ منها "الرحلة الداخلية" لأوشو، "حكايات من تركيا"، "مقولات يوغا بتنجالي"، "موسيقى الهند" لـ ريجنالد ماسي وجميلة ماسي، والرواية الشهيرة التي تحولت إلى فيلم لاحقاً "صيد السلمون في اليمن" لبول ترودي، ورواية "الأرامل" للتشيلي إيرين دورفمان، وترجمات لشعراء عالميين تحت عنوان "بيت بجانب الطريق"، وعن اليمن ترجم كتاب "بعثة الأربعين الشهرية 1947" لـ كيفين روزر.
معظم الأعمال التي ترجمها المقالح هي التي اختارته لترجمتها بقدر ما أثّرت به، يقول المقالح، وقد تبنت جهات حكومية طباعتها، لكن هذا لا يمنعه من انتقاد "سياسات تتعامل وفقاً لما يفرضه الحال من دون استراتيجية واضحة". وهذا في رأيه "يفقدنا التواصل مع العالم، فاليمن البلد المليء بالأسرار القادر على إدهاش من يقصده. كل ما كُتب حوله، مرفوع على أرفف المكتبات العامة كزينة، ولا أحد يهتم".
في السياق ذاته، يرى مترجم رواية "لأنني أحبك" للفرنسي غيوم ميسو، الكاتب الشاب محمد عثمان أنّه: "من الصعب إيجاد مترجمين محترفين، يكرسون وقتهم وجهدهم للترجمة"، ويرد عثمان هذا إلى أسباب مختلفة، مثل مكانة الثقافة في الفلسفة العامة للمجتمع، والسياسات التعليمية، مضيفاً أن الفلسفة العامة بشقيها الرسمي والمجتمعي تقاوم وجود مترجمين وتقاوم حتى الحاجة لوجودهم".
كما يرى الناقد والمترجم الشاب بشير زندال مشكلة الترجمة في افتقارها لوجود "دور نشر تهتم بالكتاب المترجم، وإلى هيئات ومؤسسات رسمية داعمة بخطط واضحة، توفر ما يترتب على الترجمة من حقوق لدار النشر الأجنبية، وللمترجم، ولا تؤخذ منه كما تفعل دور النشر اليمنية".

"أنا نجوم ابنة العاشرة": خطوة خديجة السلامي


من باب السينما الروائية أطلّت هذه المرة مخرجة الأفلام الوثائقية اليمنية خديجة السلامي (1966)، بشريط بعنوان "أنا نجوم ابنة العاشرة ومطلّقة"، وهو يحكي قصة واقعية عن فتاة يمنية تُدعى نجود، زوّجها أهلها في سن العاشرة. وقد حصد العمل جائزة أفضل فيلم روائي في المسابقة الرسمية لجوائز "المُهر العربي"، خلال الدورة الحادية عشرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي" التي اختُتمت نهاية الشهر الماضي.
ألهمت قصة نجود الحقيقية الفتيات القاصرات للخلاص من واقع فُرض عليهن، وأعادت النقاش حول العادات والتقاليد اليمنية وقوانين تحديد سنّ الزواج، بعد ذهابها شخصياً إلى المحكمة، في العام 2008، لتحقّق مطلبها بالطلاق من زوج يكبرها بعشرين عاماً، بمساعدة محامية قابلتها صدفة لدى القاضي. وقد لاقت تفاصيل القصة صدى واسعاً في وسائل الإعلام العربية والعالمية، كما روتها نجود، بمشاركة الصحافية الفرنسية دلفين مينوي، في كتاب بعنوان "أنا نجود ابنة العاشرة ومطلّقة" الذي صدر في العام 2009، وترجم إلى لغات عدة، بينها العربية. وقد اقتبست المخرجة السلامي فيلمها عنه.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قصة بطلة الفيلم، نجوم، تتقاطع مع قصة خديجة السلامي نفسها التي أُجبرت على الزواج في سن الحادية عشرة من رجل مسنّ، كما تقول سيرتها المعروفة. وبالتالي، يأتي العمل ليخدم قضية المُخرجة في الدفاع عن المرأة وقضاياها.
في حديث مع "العربي الجديد"، تقول السلامي: "فكرة الفيلم جاءت بعد علمي أن مخرجة فرنسية تقدّمت لشراء حقوق كتاب "أنا نجود ابنة العاشرة ومطلّقة" الذي صدر باللغة الفرنسية، من أجل تحويله إلى فيلم يصوُّر في المغرب. وبدافع قلقي من طرح الموضوع من وجهة نظر تجهل بيئة القصة وواقعها، عرضتُ على شركة النشر شراء الحقوق. وبعد نقاش طويل، اقترحوا عليَّ إشراكهم في إخراج الفيلم وتصويره في المغرب، وهو ما رفضته لأنه إذا لم يجرِ التصوير في اليمن ومع ممثلين يمنيين فإن الفيلم سيفقد روحه. اقتنعوا بذلك ونفّذتُ طلبهم بأن يشاركني في الإنتاج شخص فرنسي. وقد واجهتُ صعوبات كثيرة في البحث عن تمويل، إلى أن وجدته بعد عامين".
كابدت المخرجة السلامي مشقَّات في مراحل أخرى من تصوير الفيلم داخل بلدها، في ظلّ انعدام إمكانات صناعة السينما في اليمن، ورغبتها في إنجاز شريط ينافس في المهرجانات العالمية: "كانت تجربة مريرة وصعبة من البداية حتى النهاية، نظراً إلى المشاكل اليومية الكثيرة التي اعترضت سبيلنا. فقد طُردنا من بعض المناطق ورحِّب بنا في مناطق أخرى. وسبّب عدم توفر الكهرباء والديزل في اليمن مشاكل كثيرة، فضلاً عن الجانب الأمني الذي أعاق صناعة الفيلم. لم تكن لدي رفاهية المخرج الذي يركّز فقط على الجانب الفني والإبداعي، بل كان عليَّ البحث عن حلول لجميع المشاكل خلال التصوير، وهو ما شغلني مراراً عن التركيز على عملي كمخرجة. لكن رغم ذلك أنجزنا الفيلم، وتعلّمتُ أشياء سأعمل على تفاديها في أفلام قادمة".
وبالعودة إلى أعمالها السابقة التي تجاوزت 25 شريطاً وثائقياً، لطالما انتُقدت السلامي على تقديمها الجانب السلبي في اليمن. فالوثائقي "أمينة" الذي اشتهرت به يحكي قصة سجينة يمنية محكومة بالإعدام، وقد أثّر لاحقاً في تغيير مسار القضية. تلاه "الوحش الكاسر" بموضوعه الكاشف للفساد الإداري في اليمن، ثم "الصرخة" الذي سلَّط الضوء على دور المرأة، غالبة ومغلوبة، في ثورة 2011. لكن المخرجة ترى أن ثمة إيجابيات في أفلامها، تكمن خصوصاً في "كسر حاجز الخوف الذي تحكّم (وما يزال) ببعض الكتاب والصحافيين، من خلال تطرّقي إلى موضوعات تعتبر حسّاسة وجريئة داخل مجتمع يفترض به أن يكون قبلياً ولا يتقبل التغيير. لقد وجدتُ العكس، فالمجتمع اليمني لديه الرغبة في التغيير والقابلية للتطور والانفتاح والنقاش وتصحيح أوضاعه السيّئة".
تضيف المخرجة، في محاولة لتخفيف الصورة التي تعكسها أعمالها: "معظم أفلامي تتّسم بطابع إنساني واجتماعي، لأنه يصبّ في دائرة اهتمامي ويؤثر بي. البعض الآخر أفلام حول الآثار في اليمن، المعمار، الطبيعة، الجانب التاريخي، وهي مواضيع أعتبرها مهمة، وأحرص من خلالها على التعريف ببلدي. اليمن، مثل جميع بلدان العالم، له ميزاته وعيوبه. هناك ما نفتخر به وما يزعجنا، ويجب على كلّ من لديه إحساس بالمسؤولية ألا يتردّد بالإصلاح، كلّ في تخصصه".
مع فيلم السلامي الأخير تتقدّم السينما اليمنية، وإن ببطء، خطوةً إلى الأمام؛ سبقه في ذلك فيلم اليمنية البريطانية سارة إسحاق، "ليس للكرامة جدران"، الذي رشّح لمسابقة الأوسكار بداية هذا العام. يضاف إليهما فيلم اليمني البريطاني الآخر بدر بن حرسي، "يوم جديد في صنعاء القديمة" (2005)، الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي في "مهرجان القاهرة الدولي". تجارب أسهمت مع أفلام أخرى، ازدهرت صناعتها في الأعوام الأخيرة، في تثبيت دعائم صناعة السينما في اليمن.
وحول هذه النقطة، تقول السلامي: "من خلال تجربتي، أقابل وأتعرّف إلى الكثير من الشابات والشباب الموهوبين الذين يعملون في هذا المجال، وهم بحاجة إلى دعم وتشجيع. آمل الكثير من وزيرة الثقافة الجديدة أروى عثمان التي تدرك جيداً أهمية هذا النوع من الفن وكيفية دعم الجيل القادم في الابتكار والإبداع".

اليمن.. عام الرواية وذوبان الدولة



وسط نشاط مُكابر لمؤسسات ثقافية أهمَلت انهيارات السياسة وأصوات الحروب في اليمن واستمرت تقدّم شيئاً. ووسط مشهد مسرحي مُقلّ، وحضور خجول لبعض المعارض القليلة لفن التشكيل، من بينها معرض "أبيض" للفنانة آمنة النصيري، تستمرّ الحركة الدؤوبة للروائيين اليمنيين، التي بدأت منذ سنوات، في محاولة لإنجاز رواية يمنية تنافس على الصعيد العربي.
إذ صدر هذا العام ما يزيد عن 12 رواية لروائيين مثل مروان الغفوري، علي المقري، سمير عبد الفتاح، جمال حسن، محمود ياسين، الغربي عمران. روايات نافست وتُنافس على جوائز الرواية العربية، واستطاعت أن تجتذب قارئاً يمنياً وعربياً أيضاً. هذا إضافة إلى ظهور أصوات شعرية جديدة برزت في الساحة العربية بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي قرّبت المثقفين العرب من بعضهم.
وفي ما يتعلّق بالسينما، فقد فاز الفيلم السينمائي "أنا نجود ابنة العاشرة ومطلقة" للمخرجة خديجة السلامي بجائزة "المُهر العربي" في "مهرجان دبي السينمائي" كأفضل فيلم روائي طويل، والذي طرحت فيه السلامي قضية الزواج المبكر. كما وصل فيلم "ليس للكرامة جدران" الذي يرصد أحداث ثورة 2011، لمخرجته سارة إسحاق، إلى ترشيحات الأوسكار.
على صعيد المسرح، تواصل فرقة "خليج عدن المسرحية" للمخرج عمرو جمال تصدّر المشهد المسرحي في اليمن، وجاء عرضها "صرف غير صحي" لافتاً في بحثه في أخطاء ما بعد ثورة فبراير 2011.
أما على المستوى الرسمي، فقد غلبت هزّات السياسية الفعل الثقافي المؤسساتي، إذ عجزت الدولة، ممثّلة بوزارة الثقافة، عن توفير الميزانية اللازمة لإقامة المهرجانات السنوية، مثل "مهرجان المسرح اليمني" الذي يتزامن مع يوم المسرح العالمي من كل عام. كما ألغت إقامة "معرض صنعاء الدولي للكتاب" الذي يقام عادة في أيلول/ سبتمبر. وأوقفت إصدار مجلة "الثقافة" الوحيدة التي تنشرها الوزارة، وبدت بعض الفعاليات المُتفرقة لها مجرّد إسقاط واجب ليس إلا.
في المقابل، استطاعت المؤسسات الثقافية الخاصة تغطية جزء من الفراغ الذي تركته الدولة، وبرزت "مؤسسة الإبداع" التي تقيم فعاليات متنوّعة كل اثنين، و"مؤسسة بيسمنت الثقافية" بفعالياتها اليومية المتنوّعة بين ندوات وعروض أفلام وموسيقى، و"مركز الإعلام الثقافي"، و"مؤسسة السعيد" في مدينة تعز، و"مؤسسة الرصيف الثقافية" المثابرة على فعالياتها الأسبوعية، و"منتدى الهيصمي" في مدينة عدن. وما يميّز هذه المؤسسات هو الاستمرارية في نشاطها، غير أنها ما زالت تفتقر إلى الأفكار النوعية والمؤثّرة في ما تقدّمه.
يمكننا القول إن عام 2014 الثقافي في اليمن، عام إنجازات الأفراد التي تبدو خارجة عن السياق. ففي حالة اليمن أيضاً، يمكن دعم موقف القائلين إن الثقافة مرتبطة بالمجتمع لا بالمؤسسة الرسمية وتجد لنفسها طرقاً للعيش، وهذا لا يعني أن حالة الاحتراب واللااستقرار السياسي لم تأخذ الأدباء بعيداً عن الكتابة الإبداعية باتجاه الموقف السياسي.


قصيدة النثر اليمنية.. أقدام تتهيأ لركل المديح





بدأت قصيدة النثر في اليمن تأخذ مكانتها كخيار لكثير من شعراء التسعينيات. تبع هؤلاءَ جيلُ الألفية الجديدة من شعراء شباب اشتد عودهم وباتوا معروفين في الساحة الشعرية بفضل انفتاح الفضاء الإلكتروني على التجارب العربية الشابة الأخرى.
ولد إبداع التسعينيين في ظروف تاريخية تزامنت مع إعلان الوحدة اليمنية عام 1990، وما أعقب ذلك من حراك ثقافي عام انعكست حيويته على الحركة النقدية التي أثرت تلك التجارب الشعرية بالقراءات والأبحاث والندوات. ومع مرور الوقت تغيّر الشرط التاريخي الذي عاشه المثقف اليمني في تلك الفترة، ودخلت البلاد في متوالية من الصراعات والحروب بدءاً من الانفصال جنوباً، والتمردات شمالاً، وصولاً إلى الثورة وما نجم عنها.
كان متوقعاً أن تظهر رضوض هذا العنف على المشهد الشعري وأن ينقسم أهله؛ فمنهم من هجر الشعر إلى الكتابة السياسية، فيما اتجه آخرون إلى كتابة الرواية كنوع قادر على تناول هذه اللحظات المعقدة وربما إعادة إنتاجها سردياً. أما القليل فقد ابتعد واكتفى بالمراقبة. في هذه الأثناء ظهر جيل من كُتّاب القصيدة الجُدد.
الشاعر محمد الشيباني (1968)، الذي يستعد لإصدار ديوانه "أقدام تتهيأ لركل المديح"، يبيّن: "كان حلم جيلنا بحجم حلم اليمنيين كلّهم، غير أن انهدام المشاريع الكبرى وحلم الوحدة جعلا من الانسحاب خياراً مفتوحاً أمام الشعراء والمبدعين عموماً. وشكّل تراجع المشروع الثقافي، في الوقت الذي يتقدّم فيه السياسي بكل نتوءاته وجنونه، عائقاً جديداً أمام الحضور الإبداعي الأدبي بشكل عام والشعري على وجه الخصوص".
ويشير صاحب "نهار تدحرجه النساء" إلى أن تغيُّر تراتبية الأجناس الأدبية، خلال العقدين الماضيين، "أطاح بالشعري من على رأس سلم الحاجة الجمالية"، مضيفاً أن "نخبوية الشعر ساعدت في تراجع جماهيرية الشاعر، ما أتاح لفنون أخرى أن تحفر مواقعها الأمامية في مساحة التلقي ذاتها التي كان الشعري يحققها سابقاً. لهذا، فإن تراجع الاهتمام بالكتابة الشعرية أمر لم يعد مستغرباً".
وعلى وقْع المفاضلة بين جيل وجيل، والجدل حول أسئلة الاستمرارية ومآلات التجارب السابقة، تشكَّل المشهد الشعري الجديد في اليمن، ونالت قصيدة النثر النصيب الأكبر من ذلك السجال. ويجمع النقاد على تميّز تجربة شعراء "الألفية الجديدة" عمّن سبقهم.
يرى الناقد علوان الجيلاني "أن الجيل الحالي من شعراء النثر يكتبون قصيدتهم بتمكّن من لم تشتته معارك الحق والباطل. فكانت تجاربهم ناضجة وغير متشابهة".
كما يؤكد الناقد عبد الرقيب الوصابي على أن كتاب قصيدة النثر "تجاوزوا دوافع أجيالها السابقة في الاختلاف أو الهروب من الالتزام بالوزن ليكتبوها بوعي واضح، ساعدهم في ذلك انفتاحهم على عالم الفضاء الرقمي وما أتاحه لهم ذلك من فرص التعايش مع نصوص الآخر".
ويتفق الوصابي مع الناقد الجيلاني في أنه "رغم اكتمال قصيدة النثر كتابةً لدى جيلها الحالي، غير أنه ينقصها المواكبة النقدية، فتعليقات الفيسبوك السريعة أصبحت نقداً بديلاً"، مشيراً إلى أنه "ومثلما يقلل هذا من أهمية النشر الورقي لديهم، يقلل كذلك من أهمية الكتابة النقدية عن تجاربهم".
من جهته يضيف الناقد إبراهيم طلحة سبباً آخر لتميز تجارب الشعراء الشباب في اليمن: "لقد باشروا كتابة قصيدة النثر من دون أن يسبق لهم كتابة الأشكال الأخرى. وعلى مستوى اللغة استطاعوا توظيف لغة شعرية افتراضية إلى جانب اللغة الشعرية الواقعية. وتطرقوا إلى ثيمات تتفاعل مع الواقع المؤلم من وجهة نظر خاصة. كأنهم يسعون من خلالها لإيجاد عالم متوازن يستبدل الحرب بالحب والطلقة بالوردة".

قصائد لشعراء من الألفية الجديدة

تغلق هاتفكَ!/ وقلبكَ مفتوحٌ للجميع/ حتّى أنّه ومن مكاني/ كنتُ أرى خلال قفصك الصّدري بوضوح/ وجه كلّ امرأةٍ قبّلتها/ قبل أن تنام/ وإلى اليوم../ تقف عند رائحتها/ في يدكَ وردةٌ/ وبالأخرى تحمل جسدكَ/ حياتكَ غادرتكَ بعيداً/ الوردة كبرت/ وصار لها تعب.. يُشبهك/ ويقولكَ أكثرَ منك/ وأنت ما زلت/ تنتظر/ أن تستيقظ.

جلال الأحمدي
***
تستمعين لنشرة أخبار التاسعة/ وتسارعين بعدها إلى قص شعرك/ تظنين أن هذا سيجعل من العالم مكاناً أقل خطورة/ لم تفكري للحظة في أن بياض عنقكِ قد صار مكشوفاً/ وأصبح الآن في متناول أي شفةٍ متعطشة للحرب أو للنزوح/ تعدمين ضفيرتك/ ولا تنتبهين حتى لأولئك المتشبثين بجدائلها/ أولئك الذين ظنوا بأن ثمة أملاً في النجاة/ وصمدوا حتى موجز أحوال الطقس.

قيس عبد المغني
***
كلاهما يستخدمان الفيسبوك لذات الغرض/ الأول لديه أبقار يعتني بها/ والثاني لديه قصائد عجاف/ الأول لديه أرض يزرعها/ والثاني لديه غراميات قاحلة/ الأول لديه بيض ديناصور/ والثاني لديه شعارات منقرضة/ الفارق الوحيد أنّ مزرعة الثاني لم تكن "سعيدة" على الإطلاق.

عبد الرحمن الزراف
***
أنا آخر فرصة لديكِ لتحبيني/ في يدي فكرة سمراء عن الحب/ وعلى الرفِّ سماء/ أثبّتُ سحابةً بمشبك شعرك البعيد/ وأمطرُ/ أعلّق بحراً صاخباً على الحائط/ وأدعوكِ للرقصِ/ أمسك الموسيقى من يديك/ وأنتظرك في الأزرق العائد وحيداً منكِ/ أنتظركِ/ في قعر الياسمين الواقف/ ننتظرك/ أنا وصمتي المرتبكُ/ كجندي أخير/ أنا صمتي المرتبكُ/ كجندي أخير/ أنا نافذتي المكسورة/ لأراكِ/ أنا فرصتكِ الوحيدة/ لتحبيني.

أحمد العرامي
***
لماذا لا نفعل ما نستطيع فِعله في هذا العالم/ ثم نصمت../ ..هاتوا لي/ أول من ابْتَاع بالثرثرة طَعَاماً/ ثم سَمَحَ لكل هؤلاء الغوغاء/ ليعرضوا ضمائِرَهُم في المزاد/ هاتوه لي../ سأجرده من ملابسه/ وأوكل لكم القيام بمهمة الانتصار/ لكل هؤلاء الناس/ الذين يَقْتَعِدون في الشوارع دون أغطية/ وينامون دون سقوف/ ويَجِدُونَ حياتهم - فقط - في الأحلام.

ريان الشيباني
***
وحين أكتب على الحائط:/ إنني لا أحب الرمان الصعدي/ وأكره الحرّاس/ تأكدي/ بأن لا علاقة لأحد بقصتنا!/ وإن قلت: أكره الكاتيوشا/ فليس معنى ذلك/ بأن عينيك ليستا سجادتي صلاة/ أحبك../ لا يمكن للشمس/ أن تثبت حبّها لخدين ناعمين/ لأن الفراشة التي أنقذتها/ من عامل الحديقة/ قالت: أحبك/ كأي دمية بجناحين ملونين/ قلت حينها كلاماً كثيراً/ عن الفراشات التي تنتحر وتموت بحضن المصباح/ قلت أيضاً: رائحة حبيبتي تشبه العطر المخبأ بأكمام وردة/ وقلت بعد حين من الكلام: إنك لعنتي الوحيدة!/ أظن بأني بحاجة لأن أصرخ في أذنيك الخاليتين من الأقراط الذهبية: إني عاشق سيئ الحظ/ ونهاياتي دائماً سيئة!

محمد عبيد


العمارة اليمنية.. قصة تهديد معلن




قد تحيلنا المدن اليمنية القديمة، بتجاور مبانيها وزخارفها وأسواقها وشوارعها، إلى إحدى المدن العربية الإسلامية القديمة. لكن عمارتها تكشف عن هوية فريدة، أساسُها توافُق البناء، الذي يستمد عناصره من الطبيعة المحيطة، مع تقلّبات المناخ على مدار السنة.
باتساع الجغرافيا اليمنية، تقفُ تلك المُدن شاهدة على مَراحل مختلفة من تاريخ اليمن، إذ يعود بناء بعضها إلى القرن الأول الميلادي، مثل "صنعاء القديمة"، وإلى القرن السابع الميلادي، مثل مدينة "شبام حضرموت"، وإلى القرن الثاني الهجري، كمدينة "زبيد". ونظراً إلى أهمية هذه المُدن الثلاث، أُدرِجت على قائمة التراث العالمي باعتبارها نماذج للعمارة اليمنية التي تتنوّع وفقاً لمناطق نشأتها.
حول هذا الموضوع، تقول أستاذة العمارة في كلية الهندسة بصنعاء، ومؤلفة رواية "صنعائي"، نادية الكوكباني، لـ"العربي الجديد": "لم تكن العمارة اليمنية التقليدية ذات سمات واحدة لأنها ترتبط مباشرة بالوظيفة، ما أثّر عليها من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والجمالية، وبالتالي على تصميم الفراغ الداخلي والشكل الخارجي.
ففي عمارة مدن شبام حضرموت، وتريم، وسيئون، وصعدة، يُستخدم الطين المناسب، اتقاءً لحرارة الجو، ومواد بناء متوافرة في المنطقة. وفي مدن صنعاء، ويافع، وجبلة، وحراز، يستخدم الحجر المناسب تفادياً لأجوائها الباردة. أما مدينة زبيد فيستخدم الطين كونه ملائماً لمناخ المناطق الساحلية الحارة وشحيحة الأمطار".
ورغم تعاقب القرون عليها، ظلت العمارة اليمنية محافظة على ملامحها التقليدية. إلا أن زحف الطراز المعماري الجديد، يدفع بعضها في اتجاه معاكس للثقافة الموروثة، ويشكّل تهديداً للهوية. وفي هذا السياق، توضح الكوكباني: "منذ قيام ثورة 1962، ظهر معماريون يرفضون القديم لمجرد أنه قديم، من دون التفكير في الهوية الفريدة للعمارة اليمنية. ومنذ تلك الفترة، بدأ الانسلاخ والتخبط بين قديم وحديث. أما مرحلة العولمة الحالية فظهر تأثيرها على العمارة الحديثة من حيث الشكل ومواد البناء؛ إذ استُخدمت مواد جديدة، مثل الزجاج والألمنيوم. وهذا يؤثّر على الهوية المعمارية، وإن بقيت تعتمد، في بعض جزئياتها، على مواد بناء تقليدية، كالحجر".
على مدى السنوات الماضية، اتُّهِم المسؤولون عن الحملات الرسمية التي من المفترض بها الحفاظ على المُدن التاريخية، بالإهمال والفساد، بل بالمشاركة في الإضرار عبر مشاريع الترميم. وقد تزامن ذلك مع تهديد اليونسكو بشطب هذه المدن من قائمة التراث العالمي، كما حدث لمدينتي صنعاء وزبيد.
وتعتقد الكوكباني أن فشل هذه الحملات يعود إلى عدم إشراك المجتمع: "نحتاج إلى البحث عن كيفية حماية الهوية المعمارية في إطار المجتمع باعتباره المسؤول الأول، وذلك عبر رسم سياسات ترفع مستوى الوعي المجتمعي ليكون مساعداً للخطط التي تضعها الجهات المختصة، وتشمل منظومة من الإجراءات والقوانين".


كاتبة من جيل التسعينات وزيرة للثقافة في اليمن






قبل ساعات من تعيينها وزيرةً للثقافة في اليمن، كانت الناشطة والكاتبة أروى عبده عثمان تواصل خوض معاركها ضد جماعات العنف والتحريم.
موقف سيكون له تأثير على أدائها في مَهمة جديدة ستنقلها من ميدان المعارضة إلى كرسي السلطة، خصوصاً أن جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) التي تعارضها بشدة أصبحت لها اليد الطولى في صناعة القرار السياسي اليمني.
الوزيرة الآتية من الوسط الثقافي، ستكون أول امرأة في المنصب الذي جرت العادة أن يشغله الرجال، وستواجه اختباراً تكون فيه مسؤولة عن إحداث فارق في حياة ثقافية كثيراً ما اشتكت من ركودها.
عُرفت عثمان، التي تحمل إجازةً في الفلسفة من جامعة صنعاء، ككاتبة قصة، وتُعدّ واحدةً من كتَّاب جيل التسعينيات. صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية: "يحدث في تنكا بلاد النامس"، و"جودلــة"، و"رباط الجزمة".
وهي كتابات تأثرت باهتمامها بالتراث، الذي نشطت في مجاله لاحقاً عبر إنشائها "بيت الموروث الشعبي"، المَعني بتوثيق التراث الشعبي بتعدّده وثرائه.
أما مقالاتها فاختصت بالدفاع عن الفن والتراث والحريات. في فبراير 2011 تصدّرت "الناشطة" أروى عبده عثمان صفوف المظاهرات المناوئة لنظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح والمطالبة بإسقاطه، وشكَّلت في الوقت ذاته جبهة معارضة من الداخل، لما اعتبرته أخطاء ارتكبتها الأحزاب وحلفاؤها المؤيدون للثورة، في إدارة ساحات الاعتصام ومحاولات كبح عفويتها، ما عرَّضها للاعتداء من قبل جنود مؤيدين، تقدموا لها لاحقاً مع سياسيين بالاعتذار علناً على منصة ساحة التغيير بصنعاء.
 في عام 2013 اختيرت  ضمن قائمة المجتمع المدني، كعضو في "مؤتمر الحوار الوطني - فريق الحقوق والحريات". حصلت عثمان على جائزتين في المجال الحقوقي؛ الأولى من "مؤسسة مينيرفا – أنّا ماريا ماموليتي" الإيطالية في عام 2011، لدورها في النشاط الثقافي والحفاظ على التراث والدفاع عن حقوق المرأة، والثانية "جائزة آليسون دي فورج" للنشاط الحقوقي الاستثنائي لـ 2014، منحتها منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية.


اليمن إذ يودع حياته الثقافية



قبل عقد من الآن، عرفت صنعاء ما يشبه حلماً ثقافياً. مع إعلانها عاصمة للثقافة العربية عام 2004، عاشت المدينة حراكاً ثقافياً افتتحت فيه بيوت ومراكز فنية، وطبعت عشرات الكتب، وأقيمت مهرجانات عديدة وندوات ثقافية واحتفالات فنية، كما ارتفعت أعداد القراء الذين يتوجهون إلى المكتبات العامة، واعتمدت كذلك مخصصات مالية للفنان والأدباء سعياً إلى دعم مشاريعهم. اليوم، يتذكر المشتغلون بالثقافة تلك المرحلة بأسىً، في وقت تمر فيه مفاصل الحياة الثقافة اليمنية بفترة ركود، أو فترة "سدّ رمق"، حسب تعبير وكيل "الهيئة العامة للكتاب"، الشاعر أحمد العواضي.
في الفترة الأخيرة، جرى تأجيل عقد الدورة الثلاثين من "معرض صنعاء الدولي للكتاب" عن موعده السنوي (29 أيلول/ سبتمبر)، لعدم توفر التمويل اللازم لـ"الهيئة العامة للكتاب" التي تنظمه.
وفي الوقت الذي ما زال القراء والمشتغلون في حقل الثقافة في البلد يأملون في أن يقام المعرض قبل نهاية العام، لا يمكن النظر إلى هذا التأجيل إلاّ بوصفه إلغاءً، في ظل غياب التمويل اللازم للهيئة التي بالكاد تسمح موازنتها بالإنفاق على رواتب موظفيها والخدمات الأساسية.
وإن كان التأجيل أو الإلغاء قد لحقا بالمعرض، فقد سبقه على هذا الطريق كثير من الفعاليات الثقافيّة التي كانت سنويّة في ما مضى، مثل مهرجان الشاعر عبد الله البردوني، وجائزة اتحاد الأدباء والكتاب. كما أغلقت أغلب المتاحف أبوابها عجزاً عن تزويدها بأنظمة أمنيّة تمنع سرقة محتوياتها. ويوشك أن يأتي الدور على بيوت الفن والثقافة والمكتبات العامة ومهرجان المسرح اليمني، بسبب شحّ التمويل الحكومي الذي يتحكّم بالقسم الأكبر من البنية التحتية الثقافية. للأسباب ذاتها، يقتصر عمل "الهيئة العامة للكتاب" على إدارة خمسين مكتبة في 22 محافظة يمنية.
يضاف إلى ذلك إلى تراجع طباعة الكتب التي صار لم يعد عدد الإصدارات السنوية منها يتجاوز أصابع اليدين، في وقت أغلقت فيه الهيئة بعض فروعها في المحافظات. "أصبح المشتغلون في الثقافة يثيرون الشفقة ويقابلون بالاستغراب وهم يطلبون إيلاء الثقافة اهتماماً ما"، يقول العواضي. ويضيف: "يطغى الحراك السياسي على ما عداه. مؤتمر الحوار الوطني، الذي أعقب ثورة 11 شباط/ فبراير 2011، نموذج لهذا الطغيان، إذ تبدلت أولويّات صانع القرار، إلى درجة سخَّر معها الفن والثقافة لخدمة الفكرة السياسيّة".
من جهته، يرى الكاتب المسرحي منير طلال، الذي ألغيت عروضه في مهرجانات المسرح اليمني التي كانت تقام في آذار/ مارس من كل عام، أن "الخلل يكمن في عدم إيمان صنّاع القرار بالثقافة وأهليّتها، وهذا يسهم في تحجيم الحراك الثقافي من داخله، وتعطيله عن القيام بدوره المهم في تفتيت الصراعات الداخلية، الثقافية في أصلها".
التّهميش الذي يطال كل ما يتعلق بالثقافة، امتدّ إلى الأدباء والفنانين أنفسهم. إذ قام "صندوق التراث والتنمية الثقافية"، قبل أشهر، بتدارك ما أسماه "انهياراً إدارياً"، بتخفيضه المستحقات الشهرية لكتاب وفنانين، ما أثار استياءهم، من دون أن يتحول هذا الاستياء إلى اعتراض فعّال على سياسة الحكومة تجاه الثقافة في البلد ووضعها الذي بات يُرثى له.

مروان الغفوري.. رسائل صعدة



"جدائل صعدة" الصادرة أخيراً عن دار "الآداب"، هي الرواية الثالثة للكاتب اليمنيّ مروان الغفوري (1980)، بعد "كود بلو" (2008)، و"الخرزجي" (2013).
يتخذ الروائي من مدينة صعدة (شمال اليمن)، بإرثها التاريخي المثخن بالأيديولوجيا والحرب، مكاناً تشعّ فيه البطلة إيمان داخل الظلمة التي تحيط بها، لتدفع عن نفسها تهمة "الزنا" التي جلبها لها انتفاخ بطنها بسبب ورمٍ.
على مدى الخط الروائي، تدور حربان متوازيتان: الأولى أدواتها الأسلحة القاتلة للجسد، ولا تسمّي الرواية أطرافها، بل تدل عليهم، لتلامس جانبها الإنساني المسكوت عنه عادة؛ والثانية، معنوية تُنهك الروح، ويقودها المجتمع ضد نفسه.
لإيمان، "الهاشمية" بانتمائها إلى نسب النبي محمد كما تخبرنا الرواية، اسمٌ أول هو زينب، تخلّت عنه أثناء توجهها من مدينة صعدة التي تطبّب بالرقية الشرعية، إلى إحدى مستشفيات صنعاء، ما يعكس اغتراباً إنسانياً يعتريها، هو ذاته الذي يعتري بقية الشخصيات أيضاً. شقيقها الأكثر قرباً منها، حسن، يحارب في الجبهة ضد الجيش، "عملاء الخارج"، لكنه يتحاشى دائماً قتل أعدائه. كذلك "الوهابي" الذي يهدي حبيبته، أثناء لقائهما خلسة، كتباً دينية تحرّم الحب؛ والآخر الذي تطرده القرية فتستقبله قرية أخرى يحمل تجاه قاطنيها أفكاراً تمييزية.
هكذا، تضعنا الرواية أمام مجتمع متناقض وممزق، شخصياته مطبوعة على العنف أو خاضعة له، مقابل إنسانية مكبوتة. وتمثّل إيمان في هذا المجتمع حالة الرفض للموت، فنطمئن إلى ضوء يلوح من أفق يشبه موسم الرمَّان الذي تشتهر به صعدة.
يستخدم صاحب ديوانَيْ "ليال" و"في انتظار نبوءة يثرب"، طاقة الرسائل في السرد، بين بطلته إيمان، وشخصيته الحقيقية، فينجح في فصل نفسه عن بطلته التي تسرد قصة الحرب، وفي بعْث اللغة الشاعرة في ردوده الممهورة بتوقيعه، "مروان"، وفي استحضار تاريخ الألم ليخبرها أنها ليست وحدها.
   يجري ذلك في مقام سردي يبقى الحدث فيه نشيطاً، ويتطلب من القارئ مراجعة ما انتهى من قراءته للتو كشرط لاكتمال السرد. يقول الغفوري في هذا السياق: "داخل النص الروائي، أجمع قصاصات من الشعر والسياسة والسرد واللغة، وألصقها على الجدران حتى يكتمل النص. أراوح في الممر، أو على  المنصّة، جيئة وذهاباً؛ ألصق هذه هنا، وهذا هناك. أقول لنفسي في لحظة ما: الآن أصبحت الصورة مقنعة. الصفحة التي تتحرك عليها أصابعي هي لوحة بيضاء أحوّلها إلى لعبة تبادلية بين الظل والضوء. العنصر المركزي في العمل أن أترك للقارئ استكمال بناء المشاهد على طريقته".
لسببين رئيسين يتمثلان في موقف الكاتب السياسي، وحضور مدينة الرواية، صعدة، كجزء من الأزمة التي تتحكم بمصير اليمن، كان من المتوقع ألا تفلت الرواية من كماشة الانحيازات التي ينفيها الكاتب: "لا أخشى على الرواية من موقفي السياسي بل من الموقف السياسي للقارئ. آلية التأويل الرائجة هي آلية تلصص سياسي. رأيت مثقفين يمنيين اعترفوا بأنهم لم يقرأوا الرواية التي وصفوها بـ"الطائفية". بيئة التلقي موبوءة بأفق جاهز. كانت إيمان مدركة لهذه المعادلات الحرجة وهي تروي. كانت عينها أيضاً على المستقبل البعيد. تحدثت إلى ناس سيأتون بعد زمن. وفي ما يبدو، استطاعت أن تكون صديقة طيبة القلب للناس الذي خشيتْ من الحديث إليهم. حتى الأعداء الذين أرادت أن تهزمهم عبر سرد قصتها، تعاطفوا معها كلّياً، وربما خرجوا يبحثون عنها في الشوارع والحارات.