الاثنين، نوفمبر 07، 2016

«شَجِنٌ عليها»


«شجِنَهْ عليك» اعتادت أمي قول الجملة لي في صغري بعد كل غيبة يتلوها لقاء، ولأنها أمي، فقد وثقت بحدسها الفائض بداوة في استخدام الشجن بتلك الصيغة وكان لها وقع آسر حين تذكرتُ مع بداية شغفي باللغة.
لا حدود واضحة بين ما رشَح في اللغة من حالات النفس: كالشجن، والشوق، والحنين.. إلخ، جميعها، ما إن تبيّن حتى تنسى، فهي متشعبة تأخذ من الحزن لتكتمل، كما تأخذ من الحب وحالاته من اللوعة، واللهفة، والحزن، والأمل ومشاعره المُختلطة والمتقلبَة.
في اشتقاق أمي الذي تقوله بلهجة حانية، الشجن يعني: تمثُّل المحب لحالات حبيبه البعيد والانشغال بحاله، كيف يعيش ؟ حزين أم سعيد ؟ معتل أم صحيح ؟.. وكثيرا ما عاجلتني أمي باتصالٍ لتسألني عن حالي وأنا في مدينة بعيدة عنها، جازمة بأن شيئا حدث لي كما يقول قلبها.
إنه تشابك الأرواح في مصائرها بين عاشقين، وحبيبين، وعزيزين، مع وجود مساحة «زمكانية» تمنع التلاقي، كأن يكون كل منهما في بلدين مختلفين، أو الانشغال بالذكرى انشغالا باعث للحزن والشوق والحنين والتوجع.
في معجم المعاني ترد «شجَنٌ» بمعنى : شجِنَتْ الحمامة شجُونا: ردَّدت صوتها، وعدَّت العرب نواحا. والأمر فلانا شجْنَا: أهمَّه وشغَله. وأحزنه. وشجِنَ شجنا: حزِنَ فهو شجِنْ. أشجَنَ الكرْم ونحوه: تشابكت فروعه والأمر فلانا: أحزنه.
من الانشغال يتولَّد الحزن، بدرجة فاتحة لو اعتبرناه لونا، وحدُّه الأدنى الرغبة في معرفة حال ما أشجننا، وما تجاوز ذلك أحال إلى شعور مُختلف.
درجة الحزن الغامقة في الشجن تكون حنينا، «الحنين» كشعور عميق بالحاجة إلى لقاء ما نحن إليه من المألوف سواء وجد أو فَني. وتكون شوقا «الشوق» كشعور بالتعلق والتلهف لرؤية ما نريد مع وجود إمكانية وإن كانت مجرد اعتقاد بداخلنا لا يُصدقه الواقع.
أعود إلى أمِّي، فقد كبُرتُ أنا، ولم أضع حقائبي وزادت مرات ارتيادي لطرقات السفر، وأصبحت أمي في كل غيبة تخاطبني قائلة: نُريد رؤيتك تعال عندنا، فلم عُدت ذاك الصَّغير الذي غادرها ليدرس في المَدينة لتظل هي منشغلة بأحوالي، فقد انتقل الشجَنُ إلي، وكم يشغلُني ويُهمُّني حالها حفظها الله.

نشر في صحيفة الجزيرة

الخميس، أكتوبر 06، 2016

لبيك حجا.. لبيك حبا



لبيك اللهم لبيك... حاجاً فرحاً بلقاء الله هناك، حيث أرضه الطاهرة وكعبته المشرفة، حيث الكرم الإلهي يتجلى، حيث الفعل الفوري والجزاء الفوري الذي يقابل التعب والمشقة بجوائز المغفرة واستجابة الأمنيات. 
الحج عبادة تطهر الروح، وتدريب للنفس على الانضباط والتسامي فوق كل الصغائر أمام عظمة الله، نرفع له أصواتنا بالتكبير والتعظيم والمنة، فيتضاءل كل شيء أمام هذا الوعي الذي نكتسبه لحظتها، نَكبُر بالتكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الحج التذاذ المحب بمناجاة حبيبه، سعادته بلقائه، بالاعتراف أمامه والتخفف من أحمال الدنيا في مشهد يذكرنا بمشهد الآخرة، فالناس في حشر للتنسك والتعبد والتخلق بالأخلاق الحسنة، فهناك لا رفث ولا فسوق ولا عصيان، طلباً للعودة إلى فطرتنا الأولى يوم ولدتنا أمهاتنا.
  • أشكر الله أن شهدت حج هذا العام في ضيافة وزارة الإعلام والثقافة السعودية، مع إعلاميين ومثقفين من شتى بقاع الأرض، حجاجاً وبطبيعة عملنا مراقبين لكل ما يدور في جنبات مشاعر الحج وكيف تتم رعايتها، وهنا يمكنني القول: لا فرق بين ما سمعت ورأيت وعايشت، فكرم الضيافة وحسن الإدارة عنوان لموسم هذا العام.

كان لقاؤنا الأول في جدة، حيث توافدنا على مدى أسبوع كامل، مستضافين في أحد الفنادق، مُحاطين بالرعاية والاهتمام، وتحت تصرفنا وحولنا كل الإمكانات التي تسهل لنا الحج ومناسكه أولاً، وأيضاً العمل من خلال المركز الإعلامي المجهز بكل ما يحتاج إليه الصحافي اليوم، ومن هنا وغيره من المراكز الإعلامية في مكة أيضاً نُقلت آلاف المشاهد والصور والنصوص عبر شاشات التلفزيون وفي مواقع الإنترنت أو في الصحف المكتوبة والإذاعات، فالعالم كله تتجه أنظاره إلى مكة، وأمامنا كل شيء متاح للنقل والتوثيق. هذه الصورة المنظمة والكريمة لن تقتصر على مجتمعنا الصغير من الإعلاميين، بل على كل شيء يدب على الأرض الطاهرة مكة المكرمة، بمستويات مختلفة ومتعددة، فمئات الآلاف من المدنيين والعسكريين موزعون بين كل متر ومتر في مكة وبقاعها في خدمة الحجيج بأعمارهم، شباناً وشيوخاً ونساء وأطفالاً، في مشهد مؤثر يُعلي من قدر السعودية حكومة، ويظهر معدن شعبها المضياف، حيث صادفتنا مبادرات خاصة كثيرة، تقوم بتوزيع الماء مجاناً أو حتى «الآيسكريم» ووجبات الطعام والمظلات والفواكه والعصائر، وكل هذا عطاء لا ينفذ طوال موسم الحج ولا يتوقف.
  • بعد أن أدينا ما يلزم لنية الحج والإحرام، اتجهت بنا في الثامن من ذي الحجة الحافلات المُخصصة لنا إلى مبنى ومخيم وزارة الإعلام والثقافة السعودية، استعداداً ليوم عرفة، وكان اللافت في كل الأماكن تلك السلاسة التي تمت معاملتنا بها، على رغم الضغط الكبير الذي يواجهه الطاقم القائم على الإشراف، ولا أخطاء تكاد تُذكر، ولا شيء يمكن أن يشغلك، كونك إعلامياً، ولن تمر مشكلة ما لديك من دون أن يجد لها الطاقم حلاً.

وصباح التاسع من ذي الحجة استيقظنا للذهاب إلى جبل الرحمة، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ستبدأ مشاهدة صور مؤثرة تعكس روح هذه الدولة وهذا الشعب وأصالته، وكانت أبرز تلك الصور هي صورة الجنود الذين يقفون بين كل متر ومتر من حولنا في الأماكن المقدسة، يرشون الماء على الحجاج في شدة الحر والشمس، يسعفون المريض ويساعدون العاجز ويتلطفون إلى الطفل، ويجيبون عن الأسئلة ويدلّون التائه وينظمون الزحام، حرصاً على عدم وقوع أية حوادث.
كانت صورة الجندي أهم الصور الإنسانية الجميلة التي يلتقطها الحجاج بهواتفهم الذكية وهم يقضون مناسكهم، ومن بين تلك الصور عالية التأثير هو ذلك الجندي الذي كان يرفض تصويره وهو يرش الماء على الحجاج، حتى لا يذهب أجره.
  • ومن عرفة الحج الأكبر إلى مزدلفة ومقر آخر لوزارة الإعلام والثقافة هناك، بتنا ثم اتجهنا إلى طواف الإفاضة والتحلل والهدي، ثم يوم العيد إلى أن بتنا في منى بمقر وزارة الإعلام والثقافة، إذ استضافتنا منى أياماً عدة لرمي الجمرات.

وهناك في استراحة ومسجد المخيم، التقينا وزير الإعلام والثقافة الدكتور عادل الطريفي، في حديث عن أهمية نقل الصورة الصحيحة عن الإسلام، وفي أيام منى الثلاثة بدأت صورة أخرى تتضح أكثر، وهي ارتباط الحج بتمتين العلاقات الإنسانية الإسلامية، وإزالة الفوارق وتعريف الناس ببعضهم وفتح آفاق جديدة للإنسان، فإذا كانت العبادات في بعضها لها ارتباط بالعلاقات بين الناس الذين ينتمون إلى بقعة واحدة وثقافة واحدة، فالحج يتجاوز الحدود، لينظم علاقة من ينتمون إلى فكرة واحدة، وهي الإسلام، على رغم انتمائهم إلى أماكن وثقافات وخصائص مختلفة، هناك تعارفنا مصافحة بالأيادي أو بابتسامات العيون، شعرنا بالامتنان لاجتماعنا في تلك الأيام العظيمة وأكلنا من مائدة واحدة، واستمعنا إلى خطبة واحدة، وذهبنا في طريق واحد، وتعارفنا واستمعنا لهموم بعضنا في تناغم وانسجام، وخرجنا بوعد التواصل في هذا العالم الذي أصبح نافذة صغيرة تجمع حولها العالم، وشعرنا بالامتنان أن جمعنا الله في مكان طاهر كمكة.
  • لا أحاديث في السياسة بيننا بصفتنا إعلاميين ومثقفين، وإذا ما كانت هناك نقاشات قصيرة وسريعة هنا وهناك فقد كانت إيران للأسف محوراً للألم حين يتحدث بها الإيراني الذي يعيش في منفى نتيجة قمع النظام الحالي، أو العراقي الذي يشكو تدخلها في بلده، أو السوري اللاجئ الذي شردته مشاريع إيران التفتيتية، أو نحن اليمنيين الذين طاولتنا نار إيران وفوضويتها، غير أن هذه الأحاديث سرعان ما تخبو لمصلحة العبادة والصلاة والتنسك وعيش لحظات الروحانية، يساعد في ذلك الاهتمام الكبير من المنظمين، أما تسييس الحج من إيران فذلك جانب آخر واجهته السعودية بتحويل كل محاولة للتصيد إلى انتصار جديد، وقد كان الرد بالفعل، وإنجاح موسم الحج باحترافية معتادة.

أخيراً، لا ملاحظات لدي، غير الشكر والامتنان لله أن وفقني لأداء هذه الفريضة، والشهادة الصادقة بالجهود المباركة التي بذلتها السعودية في رعاية الحج ووزارة الإعلام والثقافة، وفهمنا من أحاديث أمير مكة خالد الفيصل ووزير الإعلام والثقافة الدكتور عادل الطريفي أن رؤية المملكة هي في نقل صورتنا الحقة للعالم، والتميز في تنظيم أهم العبادات، باعتبارها نموذجاً لجمع كلمة الأمة، وهذه الصورة تعنينا جميعاً بصفتنا مسلمين، لتقديم أنفسنا دعاة سلام بعد أن شوّه البعض انتماءنا لدين الإسلام، بل انتماءنا للإنسانية نفسها. ودّعت البيت الحرام وفي عيني دمعة مفارق، وفي قلبي شوق إلى العودة إليها. اللهم حج مبرور وسعي مشكور.

نشر في صحيفة الحياة الرابط

الاثنين، أغسطس 29، 2016

في ذكرى وفاة الشاعر الكبير عبد الله البردوني


في مثل هذا اليوم (30 أغسطس 1999) رحل عبد الله البردوني أعظم الشعراء اليمنيين، ولأنه في لحظات حياته انحاز للبسطاء وللشعب، كشاعر وإنسان ليصبح رمزا للذات اليمنية، فمن الطبيعي أن يكون الناس أكثر انحيازا له، فهو الحاضر في عقولهم وقلوبهم وهو عندهم المهرجان والاحتفاء.
كان يعرف لمن يكتب حرفه، على من يستند ولمن سيترك موروثه الذي يتردد عذبا على كل لسان وينتشر وعيا في كل عقل، فكان من اليمنيين القلائل الذين احتلوا مساحة واسعة في صدور اليمنيين، وأنا واحد منهم.. بحثت عنه في كل مناسبة ومناسبة ومن خلال عملي كمحرر ثقافي في عدد من الصحف على مدى أعوام كتبت عنه ما استطعت واقتربت من عوالمه الشعرية وانبهرت بأفكاره الفلسفية خاصة. كان في الشعر صدر تاريخه، وللفلسفة والفكر اليمني ديباجته.
هنا أعيد بعض بحثي عنه واستطعت الوصول له عبر الانترنت، وما زال لدي الكثير لأكتبه أو لأشير إليه.
.
.
.

  • البردوني.. بحث عن الذات اليمنية


بعد سنوات من رحيله وفي الذكرى الرابعة عشرة التي تحل في 30 أغسطس هذا العام، السؤال الذي علينا إعادة الإجابة عنه ما الذي علينا استدعاؤه من البردوني ؟ فإضافة إلى قول البردوني للشعر كمتنبي عصره، ونشر دارسات نقدية في الشعر والشعراء وفي الفنون الأخرى،  حرص على تسجيل تصوراته الفلسفية الفكرية عبر كتابات اجتماعية سياسية انشغلت بموضوعات الثورة والبناء كعمليتين متلازمتين تفضي الأولى إلى الأخرى.
ينشر "المصدر الثقافي" مقتطفات من كتاباته البردوني الفكرية الاجتماعية السياسية، تعطي القارئ نبذة عن المبادئ التي دعا إليها البردوني في الحكم وإدارة الدولة في فن الانحياز للمواطن والوطن، وتبيين ما يجب وما لا يجب من وجهة نظره.

  • عبد الإله القدسي أحد قرَّاء البردوني:

كان دائماً يقول: علي أن أقول كلمتي وهي تستفز وتقاتل إذا انتصرت لا أفرح بانتصارها وإذا سقطت لا آسف على سقوطها" ولم يكن يجامل أحداً كما لم يكن فجاً*
 له محاضرات ألقاها في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لم تنشر على الإطلاق وهي مسجلة لديهم، رغم أن نشرها مهمة الاتحاد

  • ورثة الشاعر البردوني يمنعون نشر أعماله
خبر يمن برس


  • البردوني.. المهم أفكاري وليس أنا

في الذكرى الرابعة عشرة لوفاته 30 أغسطس 2013،يبلغ الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني من الحضور 74 عاما وربما أضعافها فهو كجده المتنبي “يسهر الخلق جراء حروفه ويختصمون”، كل هذا العمر ونحن في علاقة وثيقة معه نصطحبه لنتعلم ولنعزز انتماءنا للعالم، ونجيب على أسئلة الثورة ونضع لبنات التحديث.
وحده البردوني لم يصبه الغياب قط مذ ولد شرق ذمار في قرية بردون عام 1929م، ولم يصبه العمى مذ أكل الجدري عينيه في السنوات الأولى لطفولته، غير أن ما أصابه هو الحديث عن الغياب من جهة من يحبونه مرددين أن حضوره وغيابه تحدده الجهة الرسمية رغم حضوره الطاغي في وجدان اليمنيين كرمز قلما حظي به إنسان آخر.



  • البردوني.. أبونا في الثورة

ينقلنا البردوني إلى أنفسنا باحترام وتقدير وينقلنا إلى الآخر بعبقرية وعذوبة وإلى كل جديد من حضارات وبشر بتحد وفخر وخلود، بمثله يثق اليمنيون فيعلنون أن منهم عبدالله البردوني.
إذا ما قيل بأن الإنسان موقف، فالبردوني مثال حيَّ للإنسان الذي لا يتنازل عن موقفه وإن كلّفه حياته، انحاز دائماً إلى وطنه وشعبه، فكان صوتاً مدافعاً عنه. رمزاً شعَر معه اليمنيون باطمئنان على ذواتهم.