«شجِنَهْ عليك» اعتادت أمي قول الجملة لي في صغري بعد كل غيبة يتلوها لقاء، ولأنها أمي، فقد وثقت بحدسها الفائض بداوة في استخدام الشجن بتلك الصيغة وكان لها وقع آسر حين تذكرتُ مع بداية شغفي باللغة.
لا حدود واضحة بين ما رشَح في اللغة من حالات النفس: كالشجن، والشوق، والحنين.. إلخ، جميعها، ما إن تبيّن حتى تنسى، فهي متشعبة تأخذ من الحزن لتكتمل، كما تأخذ من الحب وحالاته من اللوعة، واللهفة، والحزن، والأمل ومشاعره المُختلطة والمتقلبَة.
في اشتقاق أمي الذي تقوله بلهجة حانية، الشجن يعني: تمثُّل المحب لحالات حبيبه البعيد والانشغال بحاله، كيف يعيش ؟ حزين أم سعيد ؟ معتل أم صحيح ؟.. وكثيرا ما عاجلتني أمي باتصالٍ لتسألني عن حالي وأنا في مدينة بعيدة عنها، جازمة بأن شيئا حدث لي كما يقول قلبها.
إنه تشابك الأرواح في مصائرها بين عاشقين، وحبيبين، وعزيزين، مع وجود مساحة «زمكانية» تمنع التلاقي، كأن يكون كل منهما في بلدين مختلفين، أو الانشغال بالذكرى انشغالا باعث للحزن والشوق والحنين والتوجع.
في معجم المعاني ترد «شجَنٌ» بمعنى : شجِنَتْ الحمامة شجُونا: ردَّدت صوتها، وعدَّت العرب نواحا. والأمر فلانا شجْنَا: أهمَّه وشغَله. وأحزنه. وشجِنَ شجنا: حزِنَ فهو شجِنْ. أشجَنَ الكرْم ونحوه: تشابكت فروعه والأمر فلانا: أحزنه.
من الانشغال يتولَّد الحزن، بدرجة فاتحة لو اعتبرناه لونا، وحدُّه الأدنى الرغبة في معرفة حال ما أشجننا، وما تجاوز ذلك أحال إلى شعور مُختلف.
درجة الحزن الغامقة في الشجن تكون حنينا، «الحنين» كشعور عميق بالحاجة إلى لقاء ما نحن إليه من المألوف سواء وجد أو فَني. وتكون شوقا «الشوق» كشعور بالتعلق والتلهف لرؤية ما نريد مع وجود إمكانية وإن كانت مجرد اعتقاد بداخلنا لا يُصدقه الواقع.
أعود إلى أمِّي، فقد كبُرتُ أنا، ولم أضع حقائبي وزادت مرات ارتيادي لطرقات السفر، وأصبحت أمي في كل غيبة تخاطبني قائلة: نُريد رؤيتك تعال عندنا، فلم عُدت ذاك الصَّغير الذي غادرها ليدرس في المَدينة لتظل هي منشغلة بأحوالي، فقد انتقل الشجَنُ إلي، وكم يشغلُني ويُهمُّني حالها حفظها الله.
نشر في صحيفة الجزيرة