الاثنين، فبراير 25، 2008

وحدي



وحدي ..نعم كالبحر وحدي
مني ولي، جزري ومدي
وحدي وآلاف الربـــى
فوقي .. وكل الدهر عندي
من جلديَ الخشبي أخرج
تدخـل الأزمان جلــدي
من لامتي ، آتي ، أعود
مُضيَّعا قبلـي وبعــدي
كحقيبة ملأى ولا تدري
كبــــاب ، لا يؤدِّي
مشروع أغنية ، بـلا
صوت، كتاب غير مجدي
شيءٌ يخبئني الدجـى
في زرع سرّته ويـبدي
من قصيدة بعنوان(صياد البروق) للبردوني

الأربعاء، فبراير 20، 2008

عادي جداً


رغم أن جميع الخلق يستطيعون أن يضمنوا لأوطانهم ما ستكون عليه في المستقبل، إلا أن واحداً عندنا "سلطة أو معارضة " لا يستطيع أن يضمن لوطن كهذا، ما سيكونه بعد 5-10 سنوات من الآن ؟ فنحن ننشغل بالدقِّ على بقع تختلف باختلافنا، ليست وحدها التي ستنتج النار ، والنور.

ما يزال الوطن صغيرا، ولم يكبر كعادة الأشياء. ما يزال مثقلا بنا كسلطة من ناحية، ومعارضة من ناحية أخرى.
ما يزال يعيش بوجهين: قبيح، وجميل. الأول، تتبناه- كما يبدو- صحف المعارضة بحقيقية منقوصة. والثاني تتبناه صحف الحكومة، بحقيقة منقوصة أيضاً. بينما ، يذهب -في كثير من الأحايين- الشعب من الحسابات؛ فيتعرض لتسلط الإخراج ، بالحذف ، والتعديل ، والتهميش . تارة من أجل المساحة الخاصة بالصفحات، وأخرى من أجل المساحة الخاصة في صدور حكَّامها: القائمون عليها.
أصبحنا بلا هموم مشتركة، وكأننا لا نعيش في محيط واحد نتنفس نفس الهواء ونسكنُ على نفس التراب. يفرط بعضنا في تشاؤمه ويفرط البعض الآخر في تفاؤله. ونزداد يوما عن يوم بعداً عن نقاط اتفاق يمكن أن نجتمع عندها ؛فنتخطى بذلك ذواتنا؛ لأجل وطن أثقل بحمل الكثير من البؤس، والفقر، وقلة القيمة . هان على الخلق ، وأصبح يسير باتجاه المجهول.
الكل يهرب من المسئولية ويرميها على الآخر، معتقداً على "طول الخط" أنَّه على صواب. نكابر في فهمنا للأشياء الموجهة إلى بعضنا من البعض الآخر .
كالذي يصرُّ على قراءة عبارة صحيحة تقول " نشكرُ الجنديَّ علىْ حُسْنِ سُلُوْكِهِ" فيحولها عناداً، و جهلاً إلى "نشكرُ الجندي: عَلـِيْ حَسَنْ سَلّـُوْكـَهْ".
مازالت مشاكلنا تختلف ، رغم أننا ننطق بنفس التسميات، وبنفس العبارات . فالفساد قائم في كل شيء ،و الفقر قائم على أغلب الشعب . لكنَّ المعنى والمفهوم يختلف لدينا كمعارضة وسلطة . وكأننا نتحدث عن أشياء مختلفة تماما: عن بلادٍ أخرى . عن شعب آخر. مازلنا نتحدث عن مشكلات لكننا لا نتحدث عن حلولها. نتحدث عن مشاريع لكننا لا نسمع عن نتائجها.

فلا عجب، إذاً، إن نسمع كل يوم عن مأساة جديدة، عن فقراء جدد، عن أغنياء جدد، عن قتلة جدد، عن ضحايا جدد، عن جهلة جدد، عن معذبين جدد،عن مظلومين جدد. عن فسدة جدد . عن جرع جديدة، وعن موت جديد.

الأربعاء، فبراير 13، 2008

هواء نقي



تختزل الطفولة حزن نصف العمر، رغم غفلتنا ونحن نقول: ليتنا نرجِع أطفالاً لنكون بلا هموم.
وإذا كانت البدايات هي أهم المراحل، فالطفولة:هي المرحلة التي نقبل فيها على الأشياء بحب، لأنها لم تمرّ علينا من قبل. ولا نكون فيها مضطرين للبقاء، بل، سعيدين بالبقاء فيها. حزنا، وفرحا، كرها، وحباً، وثورة. نأخذ كل الأشياء بمثالية مفرطة.

يتذكر صاحبي كيف كان والده يفرغ حقده على المستعمر في أذنه : الكلاب ، الأنذال ، أولاد الزنى. وكان هو يفكر بأنبوبة الغاز كثيراً ، يومها كانت الانفجارات تنمو في أنحاء المدينة .
في حارتهم القديمة، كانت لعبته المفضلة مع من هم في سنه من الأطفال، لعبة المقاوم والعدو. لعبة الثورة والمستعمر. ومازالت ذاكرته تحتفظ ببيت من الشعر، كتب على جدار غرفة في بيتهم القديم على لوحة بيضاء كان يستخدم مثلها في رسم الجهاز الهضمي، والعصبي كنشاط لمادة العلوم ، "لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل "

- الخروج من بوابة المستعمر يعني: الحياة مهما تكن.

في مرحلة متوسطة، نتعب في البحث عن رونق البدايات ، وبهاء الإفراط الذي يمنحنا الأشياء كاملة بحلوها ومرها . لكننا لا نجده . ولو استطعنا، فلا نصلُ إلى مستوى البداية . وإن كان لابد فالنهاية وما قبلها.

في طريقنا المتوسط نقصد منه الطريق الأخير ؛ لا نصمد طويلاً في البقاء على طبيعتنا . نطأُ أول درج السلم . ولكن هذه المرة بتقديرات نسميها عادة "الحكمة". لذلك نسير بأقنعة، ونتحول إلى ممثلين في مسرح كبير نجد أنفسنا فيه في غاية تقديم الأعذار. مجردين من الحقيقة التي نكتشفها كلما وقفنا أمام المرآة: أنانيون، ومدّعون. ونصل بكل هذا إلى أقرب النقاط حولنا وأبعدها.

- أصبحت الأشياء، حاضراً، مثلي: أمشي بعكاز يحمل جسدا واهناً بقلب ضعيف. بين كل هذا، توجدُ مساحات لنكون فيها كل الأشياء التي نريد.

لم يسعفني الوقت، حين أكمل صاحبي شايه، لأسأله: من أي البلاد أنت ؟ لكن مظهره كان يوحي بالبلاد كلها . بالشمال وهوائه ، وبالجنوب وهدوئه .

الاثنين، فبراير 11، 2008

مدونة أحمدي نجاد


اصبر رجاء ..
كتابات أحمدي نجاد الشخصية

كانت آخر تدوينة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد في مدونته الشخصية على الإنترنت ، والتي كتب على بابها : كتابات أحمدي نجاد الشخصية ، في 2007/11/29 بعنوان دليل الحكومة الإسلامية . قد يبدو التدوين غريباً على رئيس دولة كإيران وعلى رئيس كأحمدي نجاد المفتون “بمحانبة” إسرائيل ، وأمريكا . والقول للعالم ، نحن هنا !

تتكلم المدونة أربع لغات . الفارسية، الإنجليزية، العربية، الفرنسية. يذكر أحمدي نجاد في أحدى تدويناته، أن الهدف من تأسيس هذه المدونة هو " إقامة علاقة ثنائیة و ‏بدون‎ ‎واسطة مع المخاطبین" ورغم الرسائل الكثيرة التي تصل إلى المدونة من أكثر من مكان في العالم ، بأسماء عربية /فارسية دائماً. وشك أصحابها بأنها تصل إليه . لكنه يرد على شكوكهم "لقد قرأت الکثیر من الرسائل التي روعي فیها الاختصار ، وكما وصلتني الرسائل‎ ‎التي كنتم كتبتم في بدایتها (أنا اعرف بان هذه الرسالة لا تصل إلي ید‎ ‎رئیس ‏الجمهوریة ولکن .. .)

في رسالة كتبها أحمدي نجاد لأم جندي أمريكي يقاتل في العراق. و لنا أن نقول أن هذه الأم افتراضية، طالما لم نعرف السبب الذي جعل الأم الأمريكية تبعث برسالة إليه.رغم ما يُـفهم بأنها أم أرسلت إليه رسالة –لم يذكر فحواها - وقد رد مخاطباً إياها بطريقة مختلفة في كل مقطع من الرسالة ، أيها السيدة المحترمة ، أجل أختي ، أيها الأم المفجوعة، أيتها الأم المحترمة . ويأتي الاعتذار أولا منه ، مبينا غرض رده على الرسالة : " سأنشر جواب رسالتك في موقعي علی ‏الإنترنيت ليقرأها كل من يحمل أفكاراً تجاهنا كالتي تحملينها ويحتاج إلي جواب ‏شافٍ"‏ مطمئنا إياها على حال ابنها الذي ذهب للحرب في العراق دون إراته : إذا كان ولدك غير راض بالذهاب إلي العراق وإلحاق الأذى ‏بالشعب العراقي، فاطمئني إن الله سبحانه وتعالی سيعينه ، وأن من اخذ ابنك ‏إلي الحرب بالقوة ،سيحاسب في الآخرة عن دمه والدماء الأخرى التي تراق . وختم الرسالة بآمال كثيرة ، أن يخرج الجيش الأمريكي "الغازي" من العراق ، وأن يتمكن العراقيين من العيش "بحب وسعادة . ويعود الشباب الأمريكي إلي أهاليهم وأسرهم ، حتى يهبّوا جميعاً ‏لخدمة بلدهم. فإذا اعتمدتم علی الله سيكون النصر حليفكم "
في رسالة أخرى سمَّاها "إلى الشعب الأمريكي " يحرص فيها على وصف الشعب الأمريكي" بالشريف" مذكراً إياه بالمسؤولیة المشترکة حیال الحریة والکرامة الإنسانية و حرمة الإساءة وبالمبادرات اللاقانویة و اللا أخلاقیة للحکومة الأمریکیة التي لم تقتصر فقط على خارج نقاط الحدود الأمریکیة " أنتم ترون کل یوم کیف أن الحریات المدنیة فی أمریکا تنحسر و تضرب علیها الخناق تحت ذریعة مکافحة الإرهاب فحتی الحریات الفردیة ، أصبحت فاقدة فقوانین القضاء والحقوق الأساسیة تضرب بعرض الحائط و هناک رقابة مشدّدة مضروبة علی الهواتف و یلقی القبض علی أی
شخص مشکوک فیه أو یتم ضرب الأشخاص بشکل قسری فی الشوارع أو یتم قتلهم بواسطة الرصاص .
ثم يوجه أسئلة شخصية -كما يصفها- :هل بالأمکان حقیقة، تسيير دفة الحکم بشکل أفضل و الا لتزام بالعدالة والاعتراف بحقوق الشعوب یتم وضع الثروة والقوة فی خدمة السلام والاستقرار و رفاهیة الشعوب بدلاً من الالتجاء إلي الاعتداء وإشعال الحروب؟جمیعنا ندین الإرهاب، لأن ضحایا الإرهاب الأصلیین هم الأبریاء و لکن هل بالأمکان احتواء الإرهاب عن طریق الحرب والهدم و قتل مئات الآلاف من الأبریاء؟فإذا کان مثل هذا الأمر فی متناول الیدّ لما ذا لم تحل الأشکالیة؟إن تجربة الهجوم علی العراق أمامنا ما هی إلا هدیة الصهاینة إلی الشعب الأمریکی مقابل تلقیهم المساعدات من الحکومة الأمریکیة


ربما ما يهم أكثر في مدونة أحمدي نجاد.هي التدوينة التي نقل فيها اجتماعه مع أعضاء مجلس السياسة الخارجية الأميرکية. رغم تاريخها القديم في 2006/10/01 . والذي تضمن أسئلة كثيرة، وإجابات كثيرة . ابتداء من موقفه من الهلوكوست وإنكاره لها . وقضايا الحقوق في بلاده ،وموقف بلاده مما يحدث في العراق .

من الأسئلة التي وجهت له:
ذكرت بالأمس في منظمة الأمم المتحدة أن على المحتلّين أن يغادروا العراق . وها أنت ترى العراق لا أمن فيه. ما الذي فعلتموه لاستتباب الأمن في العراق؟ يقال إن السبب في تدهور الأوضاع الأمنية في العراق هو إيران. ما هي سياستكم تجاه العراق؟‌ وهل أنتم مستعدون للتعاون "مع أميركا لحلّ الأزمة الأمنية في العراق؟

هذا سؤال طُرح قبل سنة وثلاثة أشهر تقريباً ، مازال صالحاً للطرح . و كما قال أحد زائري المدونة: فخامة الرئيس نعرف أنك تقول الحقيقة !


الجمعة، فبراير 01، 2008

لـــوركــا


فيدريكو غارثيا لوركا

جَمال كل الأشياء الذي لا يُقاوَم(1)


إيــــلاف
الترجمة، من الانجليزيّة، تحسين الخطيب:
مرّةً، ذات حشدٍ حميمٍ، في 2Residencia de Estudiantes قال المعماريّ لُكُوْرْبُوْزِيي(3) بأنّ أكثر ما أحبّه في إسبانيا كان التّعبير dar la estocads (أنْ تقوم بقتلٍ نظيفٍ) ذاك أنّه يُعبّر عن نيّة الذّهاب إلى الموضوع مباشرةً وتوق البراعة في ذلك سريعاً، دون التّوقّف عند الثّانويّ والزّخرفيّ. إنّني أؤمن بذلك المذهب أيضاً، رغم أنّ سيفي، بطبيعة الحال، ليس سيفاً رشيقاً ونظيفاً. يربض الثّور أمامنا، ويتوجّبُ علينا قتله. على أيّة حالٍ، تلك هي نيّتي.

ولأنّني أُدرك مدى صعوبة هذا الموضوع، فإنّني لا أُعرِّفُ، بَلْ فقط أُشدِّدُ. لا تسألوني عن الحقيقة والبُهتان. لأنّ "الحقيقة الشّعريّة" تعبير يتبدّل تبعاً للشّخص الذي ينكّب عليه. قد يكون الضّوء، عند دانتي، قُبحاً، عند مالارمي. علاوةً على ذلك- مثلما يُدرك كلّ واحدٍ منّا الآن- فإنّ علينا عشق الشّعر. فالشّعر كالإيمان- لا يُقصد فهمه بل استقباله في مقام من الفضل. لا يتوجّب علينا القول" هذا واضح"، لأنّ الشّعر غامض، ولا يتوجّب القول" هذا غامض"، لأنّ الشّعر واضح. ما يتوجّب علينا فعله: أن نُفتّش عن الشّعر مُفعمين بالحيويّة والنّشاط والقُوّة حتّى يستسلم لنا. لكنّنا نحتاج إلى نسيان الشّعر قبل أن يهبط عارياً بين أذرعنا. ما لا يُطيقه الشّعرُ هو اللاّمُبالاة. فاللاّمُبالاةُ كُرسيّ الشّيطان. لكنّها اللاّمُبالاة تلك التي نسمعها تهذي في الشّوارع، غريبة الثّياب، قنوعة، ومُهذَّبة.

إنّ المُخيّلة، بالنّسبة لي، مُرادفة للاكتشاف. أن نتخيّل: أن نكتشف، أن نحمل كِسرة الضّياء إلى شِبْهِ الظّلّ الحيّ، حيث تُوجَد كلّ الاحتمالات المُطلقة، الأشكال، والأعداد. لا أُومنُ بالخلق بل بالاكتشاف، ولست أُومنُ بالفنّان الجالس في مقعده، بل بالذي يجوبُ الطّرقات. المُخيّلة وسيلة روحيّة، مُستكشفَةٌ مُلْهَمَةٌ للعالَم الذي تستكشفه. المُخيّلةُ تُهيّئُ وتمنح حياةً مُشرقة لشظايا الحقيقة المحجوبة، حيث يَضجُّ الانسان.

نادراً ما تكتشفُ المُخيّلة أشياءَ خُلقتْ للتَّوّ، إنّها لا تُلَّفِّقُ، وكلّما فعلتْ ذلك يهزمها جمالُ الحقيقة. تُطاردُ المخيّلةُ صُوراً بوسائل صيدٍ مُجرَّبَةٍ وأصيلةٍ. دائماً ما تكون آليّاتُ المُخيّلة الشّعريَّة هي ذاتها: تركيز، وثبة، تحليقة، عودة بالكنز، ثمّ تبويب وانتقاء لما تمّ جلبه. يُهيمن الشّاعر على مخيّلته ثمّ يُطلقها حيث يشاء. وحين لا تَسُرُّهُ خدماتها، يُعاقبها ثُمّ يُطلقها ثانيةً، تماماً مثلما يُعاقب الصّيَّاد كلبه الذي يتواني في جلب الطّائر. أحياناً، يكون الصّيد رائعاً، لكنّ أكثر الطّيور جمالاً وأكثر الأنوار إشراقاً غالباً ما تبتعد.

تُقَيِّدُ الحقيقةُ المُخيّلة: لا تستطيعُ تخيّل ما لا يُوجَد. إنّها تحتاج إلى أشياءَ، أعداد، كواكب، ثمّ تتطّلبُ أكثر طرائق المنطق صفاءً لتربط تلك الأشياء ببعضها. تُحَوِّمُ المُخيّلة فوق العقل مثلما يُحوّم العبير فوق الزّهرة، يندفع مع النّسيم، لكنّه يظلّ مشدوداً إلى مركز منبته الذي يفوق الوصف.

ترتحل المخيّلة الشّعريّة، تُحوِّل الأشياء، وتمنحها معناها الخالص، ثمّ تُعرِّف علاقاتٍ لم يرتبْ فيها أحدٌ قط. لقد كانت المُخيّلةُ هي التي اكتشفت الجهات الأربع الرئيسة، وهي التي اكتشف العلاّت الوسيطة للأشياء، لكنَّها لم تكُنْ، دوماً، قادرة على إبقاء يديها في الجمر المُشتعل بلا منطقٍ أو إحساسٍ، حيث نعثر على إلهامٍ حُرٍّ عفويٍّ.

من الصّعب على ما يُسمَّى بشاعر التخيُّل الصّافي أنْ يُنتِج انفعالاً حادّاً بشعره. يستطيعُ، بالطّبع، انتاج انفعالاتٍ شعريّةٍ، ويستطيعُ، بتقنية النّظم، إنتاج الانفعال الموسيقيّ المِثَال للشّعر الرومانسيّ، الذي يفتقر، في الغالب، إلى المعنى العميق للشّاعر الخالص. لكنّ الشّاعر التَخَيُّلِيَّ لا يستطيعُ انتاج انفعالٍ شعريٍ بِكْرٍ، عفويٍّ، مُتحرِّرٍ من الجُدران- شعرٍ دائريٍّ بقوانينه المُبتكرة للتَّوِّ. المُخيّلةُ مُجدبةٌ، والمُخيّلةُ الشّعريّةُ، كذلك، أكثر.

الحقيقةُ المُدْرَكَةُ، حقائقُ العالَم، وحقائقُ الجسد البشريّ، أكثرُ احتفاءً بظلال اختلافٍ بارعةٍ، وأكثرُ شِعْريّة ممّا تكتشفه المخيّلة. كثيراً ما نُلاحظ ذلك في الصّراع بين الحقيقة العلميّة والأسطورة المُتخيَّلَة، حيث- شُكراً لله- ينتصرُ العِلْمُ. ذاك أنّ العِلْم أكثر غنائيّة- ألف مرّة- من أيّ مَبْحَثٍ في أنساب الآلهة.

لقد اخترعتِ المُخيّلةُ البشريّةُ المَرَدَةَ لتَنْسِبَ إليهم بناء الكهوف العظيمة أو المُدُن المسحورة. ثُمّ، بعد ذلك، علّمتنا الحقيقةُ بأنّ هذه الكهوف العظيمة صنعتها قطرةُ ماءٍ. قطرةُ الماء الخالصةُ، الصَّبُورةُ، الأبديّةُ. في هاته الحالة، مثلما في أخرياتٍ كثيرةٍ، تنتصرُ الحقيقةُ. ثمّ بعد ذلك كلّه: أنْ يكون الكهفُ نزوة الماء الغامضة (تُقيِّدها وتُنظِّمُها قوانينُ أبديّةٌ) أكثر جَمالاً من نزوة المردة الطّارئة التي لا معنى آخر لها سوى ذلك الذي في العِلَّة.

الاستعارةُ هي ابنةُ المُخيّلة- الابنة المنطقيّة والشّرعيّة- الّتي تُولَدُ، أحياناً، من ضربة حدْسٍ مفاجئةٍ، وأحياناً تُبصِر الضّياء بالكرب البطيء للتَّمَعُن.

يجوبُ الشّاعرُ مُخيّلته، مقتصراً عليها. يسمع تدفّق أنهار عظيمةٍ. يشعر جبينه ببرودة القصب المُرتعش وسط اللاّمكان. يريد الإصغاء إلى حوار الحشرات أسفل الأغصان. يُريد التّغلغل في دفق النُّسغ في الصّمت المُعتم لجذوع أشجار هائلة. يُريدُ إدراك أبجديّة مُوْرْس التي تكلّم بها قلبُ الفتاة النّائمة.

يُريدُ. كلّنا نُريدُ. لكنّ خطيئته: أنْ يُريد. على المرء أن لا يُريد- عليه أنْ يعشق- ولهذا يُخفق. لأنّه، حين يُحاول التّعبير عن الحقيقة الشّعريّة لأيّ من هاته الموضوعات، يتوجّب عليه، حينئذٍ، الاستفادة من التّناظرات الوظيفيّة التّشكيليّة التي لن تكون مُعبّرة بما يكفي، لأنّ المُخيّلة لن تستطيع بلوغ تلك الأعماق.

ما دام لا يحاول تحرير نفسه من العالم، يستطيع الشّاعرُ الحياة سعيداً في بؤسه الذّهبيّ. لقد كان لكلّ المنظومات البلاغيّة، كلّ المدارس الشّعريّة في العالم- من اليابانيّين فصاعداً- خزانتها الرّائعة من شموس، أقمارٍ، زنابقَ، مرايا، وغيوم كئيبة كان يستخدمها كلّ المفكّرين على جميع الأصعدة.

لكنّ الشّاعر الذي يُريد التّحرر من المُخيّلة، وعدم الاكتفاء بالصّور التي تُنتجها أشياءُ حقيقيّةٌ فحسب، يتوجّب عليه التّوقّف عن الحلم والبدء في الرّغبة. حينئذٍ، حين تصبح حدود مخيّلته لا تُحتمَل ويُريد تحرير نفسه من عدوّه: العالَم، فإنّه يعبرُ من الرّغبة إلى العشق. ينتقل من المخُيّلة، التي هي إحدى حقائق الرّوح، إلى الإلهام الذي هو إحد مقامات الرّوح. ينتقلُ من التّحليل إلى الإيمان، فيصبح الشّاعر (الذي كان، في السّابق، مُستكشفاً) إنساناً متواضعاً يحمل فوق كتفيه جمال كلّ الأشياء الذي لا يُقاوَم.

تنقَضُّ المخيّلة على الفكرة بضراوةٍ من كلّ الجهات، لكنّ الإلهام يستقبلها فجأةً ويلفّها بضياءٍ رقيقٍ خافقٍ، كتلك الزّهرات الكبيرة آكلة اللّحم التي تُغلِّفُ النّحلة المُرتشعة، ثُمّ تُذيبها في النُّسغ الحرِّيف الذي يتفصّد من بتلاتها عديمة الرّحمة.

المُخيّلة بارعةٌ، مُنظَّمَةٌ، حافلةٌ بالألوان، لكنّ الإلهام مُتنافرٌ، أحياناً لا يُميِّزُ المرء، وغالباً ما يضعُ دودةً زرقاء شاحبةً في عينَيِّ الوحي الصّافيتين. ذاك لأنّه يُريد ذلك، دون تقديم أيّ تفسير. تخلق المُخيّلة جوّاً شعريّاً، ثمّ يخلقُ الإلهامُ ألـ "حقيقة الشّعريّة".

مثلما للمُخيّلة منطقٌ إنسانيٌّ، فإنّ للإلهام الشّعريّ منطق شعريّ. تُصبحُ البراعةُ الفنّيّة والمُسلّمات الجماليّة بلا أيّ نفعٍ يُرتجَى. ومثلما المُخيّلة اكتشافٌ فإنّ الإلهامَ موهبةٌ، موهبةٌ تفوق الوصف. لقد كان خْوَانْ لارِّيْ من قال: "هذا، الذي يأتي إليّ لبراءتي."

مهمّة الشّاعر: أنْ يمنح حياةً animar، وفي المعنى الدّقيق للكلمة: أنْ يمنح روحاً. ذاك أنّيَ شاعرٌ حقيقيٌّ، وسأبقى كذلك حّتى مماتي. لن أتوقّف عن جلد نفس بالسّياط، لن أفقد الأمل بأنّ جسدي سيطوف، ذات يومٍ، بدمٍ أخضرَ أو أصفر. أيّ شيءٍ أفضل من البقاء جالساً خلف النّافذة تنظرُ إلى ذات المنظر الطّبيعيّ. التّناقضُ نور أيّ شاعر. لم أُحاول فرض موقفي على أحد –فذلك لا يليقُ بالشّعر. لا يحتاجُ الشّعر إلى مهنيّين مهرة، بل إلى عشّاقٍ، ثُمّ يَمدُّ عُلّيقاً وكسراً من زجاج إلى تلك الأيدي التّي بعشقٍ تُفتّشُ عنه.


هوامش المترجم: 1- عنوان المقالة بالانجليزيّة: The Irresistible Beauty Of All Things، وهي من محاضرة للوركا بعنوان "المخيّلة، الإلهام، المُراوغَة Imagination, Inspiration, Evasion" أعاد ترتيبها، وترجمها، عن الإسبانيّة، كريستوفر مورير، وذلك من بيانات الجرائد المنشورة بين 1928 و1930. ظهرت في العدد السّابع من Jubilat، ثم قام سباستيان آروز بتضمينها كتابه: رسائل وتذكاراتُ سلفادور دالي وفيدريكو غارثيا لوركا Letters and Mementos of Salvador Dali and Federico Garcia Lorca، نُشر في خريف 2004، عن دارSwan Isle Press. المصدر: مجلّة هاربرز Harper's، عدد سبتمبر 2004، ص ص 26-28. 2- حرفيّاً: بيتُ الطَّلَبَة، وهو الاسم الذي كان يُطلق على المراكز الثّقافيّة في مدريد. كان لتلك المراكز عظيم الأثر في تشكيل ما عُرف بالعصر الفضيّ للحياة الثقافيّة الاسبانية، كما وساهمت في خلق بيئة ابداعيّة لمعظم كتّاب وفنّاني ومفكّري جيل ألـ 98 ( أمثال: ميكيل دي أونامونو، بيُو باروخا، أنطونيو متشادو وخوان رامون خيمينيث) وجيل ألـ 27 أمثال: لوركا، لويس بونويل، سلفادور دالي، رافائيل ألبيرتي، لويس ثيرنودا.3- Le Courbusier (1887-1965): معماريّ، رسّام، مثّال، وكاتب فرنسيّ وُلد في سويسرا.