الخميس، يناير 11، 2007

مقهى ريش

مقهى ريش...الإنسانُ مهرجانٌ الإماكنِ


أخبرني صاحب المقهى الذي عرَّفني باسمه لاحقاً ، حين عرف أنني من اليمن .أن (قحطان الشعبي) أخذ مباشرةً من المقهى إلى عدن..بعدها سمعَ خبر أنه أصبح رئيساً لليمن الجنوبي.. لست أعلم دقةالخبر لكن ما أعرفه أنه مر من هناك.كنت أحاول الدخول إلى هذا المقهى لكني لا أستطيع ؛ وذلك بحجة الترميم الذي يحدث له الذي شهد أمزجة من ارتادوه ، ليصبح مقهاً تاريخياُ يحمل بين طياته ذكرى عبقة لرجال الفن ،والسياسة ،والأدب ،والثقافة .لكنَّ مصادفة ًغريبة سنحت لي أن أتجول فيه ، وهو على حاله من الترميم ، دون انتظارٍ لموعدٍ لم يضرب بعد .

إنه مقهى ريش.. ناعمٌ كاسمه الذي نقش بشكل آخر على بابه المرمَّم ، والذي تمتلئ جدرانه من الداخل بصورٍ لبعض من ارتادوه قديماً . يحتفظ بذاكرته حزناً ، وفرحاً ، وخوفاً ، وملاذاً آمناً ، وغير آمنٍ أحياناً أخرى . مرَّت الثقافةُ من هناكَ ، والسياسةُ ، والفنُ . وسنواتٍ اجتزأت ذاكرة المدينة ، ومدناً أخرى كثيرة ..و كلها نالت نصيبُ "القهوة" فيه

.
تاريخ بحجم ذاكرة لا تنتهي

قبل مايقارب مائة عام ، أي في العام1908م ، بدأ مقهى(ريش) يستقبل رواده مثل كل المقاهي والتي كانت بامتداد "وسط البلد" في القاهرة ، والذي بلغ عددها ا مايزيد عن أربعين مقهى. لم يتبق منها الآن أثر ، فقد زحفت مكانها محلات الملابس والإكسسوارات ،ومطاعم كنتاكي، ومواقف السيارات ،ومحلات الوجبات السريعة . لكن مقهى ريش مايزال إلى الآن يسكن أسفل إحدى العمارات في شارع "طلعت حرب" . وبرغم ما أصاب المقهى من شروخ في عام 1992 جراء زلزال القاهرة إلا أن صاحب المقهى يرمِّمه بين حين وآخر.

جدار آخر

بداخل المقهى ، وعلى غفلة من الصور المعلقة أمامي .. أرقب صورة هذا "النوبل" العربي الأول يمر على شفا الحروف المتصلبة أمامه من أول الجريدة المعلقة في يديه. وكانت لنجيب محفوظ صورة أخرى كبيرة تنتصب في الأعلى ،مكتوب أعلاها :نجيب محفوظ- 1988 مع إهدء بخط يده ((تحياتي لمقهى ريش وأهله باقيين وراحلين 10/3/1989)) . إضافة إلى صورِ كثيرة تشكِّل جداراً أخر للمقهى بحجم معين...لـ فؤاد حداد ،صلاح جاهين ، يوسف إدريس ،ورياض السنباطي،نجيب الريحاني ،يوسف بك وهبي ،أم دنقل ،معن بسيسو ،صالح جودت. ومن الممثلين أيضاً :عبد المنعم إبراهيم ،توفيق الدقن ،محمود المليجي،أنور وجدي، إسماعيل ياسين . يتوسط هذه الصورالفوتوغرافية ، رسومٌ كاريكاتيرية لرسَّام نسي أن يرسم نفسه في زحمة انشغاله بالآخرين رسماً . كان يمزج ملا مح الوجه لصاحب الصورة بملامح الشكل الذي يتخيله ، كجسم طائر أو حيوان . لا أدري ماذا كان يقصد بالضبط . ولكن ربما فهمتُ من تعليقاته على كاريكاتيرات مثل اللوحة التي رسمَ فيها توفيق الحكيم، كتبَ أسفلها "عصفور من الشرق" والمعروف أن "عصفور من الشرق" هي إحدى روايات الحكيم . وقد رسمه على هيئة عصفور له ملامح وجهه . يوسف السباعي رسمه بجسد سمكة . إبراهيم ناجي بجسد سنجاب . طه حسين بجسد كروان ثم كتب تحت الرسم "دماء الكروان" والمعروف أيضاً أن لطه حسين رواية بعنوان " دعاء الكروان " لكنه حين عبَّر عنه بالرسم أبدل العين بالميم .وهذه الرواية تحوَّلت إلى فيلم بنفس الإسم .أم كلثوم رسمها بجسد طاووس . وأحمد رامي بشكل فراشة.عباس العقاد بهيئة صقر .

رسم المقهى ذاكرة الكثير من المبدعين ، ووهبهم حكاياته الأثيرة وأسراراًكان يخبئها .كانت تقام فيه الندوات الفكرية والثقافية والليالي الساهرة. أما السيدة أم كلثوم "ثومة"كما يسميها المصريون ، فقد كانت أولى بداياتها في الغناء في هذا المقهى . وكان نجيب محفوظ يواظب على نداوته و يقيمها صباح كل جمعة . واستوحى روايته ( الكرنك) التي كتبها ثم تحولت إلى فيلم سينمائي ،وقد سرد فيها بعض ما تعرض له المثقفين في سنوات حكم جمال عبد الناصر .ويُذكر أن شخصيات المسلسل المشهور "ليالي الحلمية" الذي كتبه أسامة أنو رعكاشة هي بالفعل شخصيات حقيقية كانت ترتاد المقهى.ارتباط ذاكرة الأماكن بالإنسان يمنحها تأريخاً لايندثر ، ولايمكن أن يُنسى. يمنحها زخم الذاكرة وذاكرة الدهشة؟!

تركتُ المكان يسترخي ليعاود نشاطه مرة أخرى -هكذا حدثني مجدي صاحبه الواقف على بابه- واعداً إياه بزيارة أخرى.

القاهرة-2005

ليست هناك تعليقات: